هوفيك حبشيان - سبتمبر 20, 2021
عبد اللطيف كشيش صنع “حالة” غير مسبوقة في السينما المعاصرة. أنجز أربعة أفلام، أشهرها “كسكسي بالسمك”، قبل نيله “السعفة الذهب” في العام ٢٠١٣ وصعوده التدريجي إلى الذروة ثم تقهقره منها شيئاً فشيئاً. مع “حياة أديل” بدايةً، ولاحقاً مع فيلمه الملحمي “مكتوب، حبّي” بجزءيه (في انتظار الجزء الثالث) دخل منطقة أخرى، خطرة، لم يخرج منها كما وطئها. بات معروفاً عالمياً باعتباره السينمائي الذي يصوّر الجنس من دون أي مراعاة للمعايير الأخلاقية السائدة في فترة من التاريخ يسطير عليها الصواب السياسي. أعداؤه يجدون دائماً مبررات لوصفه بالمنحرف والمُخِلّ. انه مُخرج الانحلال الأخلاقي بامتياز بالنسبة إلى النقّاد العرب الذين حرصوا على شتمه ووصفه بالـ”بورنوغراف” والحطّ من شأنه بلا توقف منذ عرض رائعته “حياة أديل” في مهرجان كانّ وفوزه بـ”سعفته” من يد ستيفن سبيلبرغ.
ما الذي يستفز؟
هناك ما يزعج في أفلام هذا الفنّان الكبير والخجول الذي اذا أمعنا النظر في أفلامه نكتشف انه مشغول بتصوير الزمن، أكثر من أي همّ آخر يهدف إلى استفزاز الجمهور بمشاهد جنسية ساخنة فاضحة. حتى الغرب المنفتح عادةً على كلّ مستجدّ ومثير، لم يوفّره. الصوابية السياسية التي أمسكت بالعقول منذ فترة، تصدّت له بلا رحمة، متّهمةً اياه بكلّ النعوت. فما بالك اذا كانت هذه الصوابية معطوفة على فكر بوريتاني. من الواضح ان الرجل ولد في الزمن الخطأ. كلّ ما يصوّره ينتمي إلى زمن ولّى: الجنس والنحو الذي يقاربه. النساء وكيف يصورهن. العالم برمته ينظر اليه كغريب، مراقب له أكثر منه مشاركا فيه.
ما أكثر التعليقات السطحية التي اضطر كشيش ان يسمعها في مؤتمرين صحافيين شهيرين، واحد في البندقية ٢٠١٧ وآخر في كانّ ٢٠١٩، عندما عرض الجزءين الأول والثاني من ملحمته “مكتوب، حبّي”. سيدة اعترضت على الفيلم جملةً وتفصيلاً وقالت انه يساهم في تشيئء المرأة، ثم اضافت ان نظرته إلى المرأة “ماتشيستية” وهذا لا يتطابق مع المعايير الغربية والأوروبية، غامزةً من قناة أصوله التونسية. وسألت: “لمَ لا تصوّر الا أجساد النساء؟ أنا كامرأة أريد ان أرى أجساد رجال أيضاً، ولي رغباتي. هذه اهانة لـ٥٠ في المئة من المجتمع”.
أحد الاتهامات العبثية التي وُجِّهت إلى كشيش هو انه رجل يصوّر جسد المرأة، معتمدًا على ما يعرف بـ”نظرة الذكور”، وهي النظرية النسوية التي كثر الحديث عنها أخيراً في السينما
مكتوب حبي انترميزو
اتهامات بالانحراف
أحد الاتهامات العبثية التي وُجِّهت إلى كشيش هو انه رجل يصوّر جسد المرأة، معتمدًا على ما يعرف بـ”نظرة الذكور”، وهي النظرية النسوية التي كثر الحديث عنها أخيراً في السينما. الاتهامات طالت شخصه كذلك، فكُتِب عنه انه مريض نفسياً ومنحرف ومتحرش. فنسان مارافال، منتج كشيش، تطرق في مقابلة إلى الانتقادات “المحافظة” التي تعرض لها المخرج: “توجيه النقد (الحديث عن اكثار كشيش من تصوير الأرداف من وجهة نظر رجل) أجده مخيفاً. “عبدل” قال لي انه أنجز “مكتوب، حبّي” ردّاً على هذا الزمن الطهراني، وأنا أفهمه. اذا أحبّ المخرج ان يصوّر أردافاً طوال ثلاث ساعات، وهذا ما فعله فيلليني مع صدور النساء خصوصاً في “مدينة النساء”، فهذا حقّه. اذا أرسلتَ سيناريو “مدينة النساء” اليوم إلى محطتي “كانال” أو “فرانس ٢”، فلن ترمياه في وجهك فحسب، إنما ستنعتانك بالمجرم وتسلمانك إلى الشرطة. هو يحب هذا، ولا يخفيه، التضاريس النسائية، يحلو له تمجيدها سينمائياً. أوفيلي بو، عندما أراها في “مكتوب، حبّي”، هي ليست جميلة فوراً، ومع ذلك يمجّدها. في آخر الفيلم، هناك عارضتان روسيتان يفترض انهما جميلتان جداً في الحياة، لكنهما هنا تبدوان باهتتين جداً. زمننا الحالي يجعلنا نشعر بالذنب حيال هذا، الأمر أشبه بأن تلوم تارانتينو أو دي بالما على مَشاهد التعذيب في أفلامهما. السينما فنّ الفانتازم”.
بكاميرا تطارد أديل من مكان إلى مكان، ولقطات قريبة تمسح تفاصيل وجهها، يوثّق كشيش بزوغ الرغبة لديها، منذ علاقة جنسية أولى مع شاب إلى ظهور ميلها إلى الفتيات
هذا كله لم يمنع ولادة جمهور من المعجبين يقدّسون كشيش وسينماه. في “حياة أديل” المقتبس من قصّة متسلسلة لجولي مارو، نشهد على حكاية مكبوتة الأحاسيس تفيض بها في الحين نفسه: أديل (أديل اكساركوبولس) مراهقة في طور تكوين هويتها الجنسية واكتشاف رغبات لا علم بها بعد. بكاميرا تطاردها من مكان إلى مكان، ولقطات قريبة تمسح تفاصيل وجهها، يوثّق كشيش بزوغ الرغبة لديها، منذ علاقة جنسية أولى مع شاب إلى ظهور ميلها إلى الفتيات. هذا كله يساهم في نشأة وعيها الحسيّ واكتمال انوثتها. بالمصادفة، تلتقي بفتاة ذات شعر أزرق (إيما – ليا سايدو)، وتقع في غرامها. لم يقدم كشيش فيلماً عن قضية المثلية. الفيلم أبعد ما يمكن عنها. ألحّ كشيش على التفاصيل الشهوانية والجسدية، فوصل بها أحياناً إلى إستيتيك المنحوتات واللوحات التشكيلية، خصوصاً تلك التي تجمع أديل وإيما في فراش الحبّ واكتشاف الذات والآخر. يلتقط التفاصيل كما لا أحد: فم أديل وهي نائمة، طريقة التهامها للمعكرونة، دهشة عينيها أمام أول تماس جنسي مع رفيقتها… الخ. كلّ شيء في هذا الفيلم حسّي إلى درجة عالية!
آخ على هذه الحياة
مكتوب حبي كانتو اونو
“مكتوب، حبّي” في جزأيه، امتداد طبيعي لـ”حياة أديل”. كشيش أراد ان يحفر أكثر في بحثه عن السعادة من خلال الجنس. الملحمة هذه قد تصدم كثيرين، سواء أكانوا من المحافظين أم من الذين يعتبرون السينما وجبة سريعة. “مكتوب، حبّي” ملحمة لن نكتشف كلّ جمالها الباهر الا مع نهاية الجزء الثالث والأخير، عندما سيقول كشيش كلمته وسيمضي. هذا الفيلم هو مشروع العمر الذي تعرض للكثير من العقبات، منها ردود مستهجنة (بالنسبة إلى جزئه الثاني) خلال عرضه في مهرجان كانّ الأخير، الأمر الذي أعاق خروجه إلى الصالات. هذا العمل الهائل يترك فينا الانطباع بأنه “ورك إن بروغريس”. عمل مفتوح لا نهاية له. عمل غاية في الطموح.
“مكتوب، حبّي” ملحمة لن نكتشف كلّ جمالها الباهر الا مع نهاية الجزء الثالث والأخير، عندما سيقول كشيش كلمته وسيمضي
في “مكتوب، حبّي: كانتو أونو” يصوّر كشيش يوميات شبّان وبنات عرب وفرنسيين في صيف ١٩٩٤. من شواطئ سيت الفرنسية، إلى مزارعها عبوراً بحاناتها الليلية ومطاعمها، نعيش معهم هذه الحياة الصاخبة: حبّ وجنس وأحلام وعواطف وخيبات وغيرة وصداقات. هناك الفحل التونسي البلايبوي المحتال، وهناك المتصابي الذي يحاول حشر انفه بين صدور النساء، وهناك الذي يحاول استدراج سائحة شقراء إلى فراشه. وهناك الفتيات اللواتي يستسلمن… آخ على هذه الحياة بكامل بهائها وروعتها وبراءتها وسقطاتها المدوية ومجدها العابر وأخطائها القاتلة. هذه اللحظات هي ما حاول كشيش اقتناصها، مدفوعاً برغبة عارمة في الاحتفاء بالحياة للاحتفاء لا لشيء آخر. تتأخر الكاميرا على أجساد الشخصيات النسائية صعوداً وهبوطاً، مراراً وتكراراً، خصوصاً لإلتقاط الأرداف والأشكال المكوّرة الجميلة. هذا التأخر يعبّر عن هاجس الإشباع الجسدي الذي يسيطر على عقول الشبّان في أعمارهم هذه ويمسك بقدرتهم على الخلق.
تصوير الرغبة
مع “مكتوب، حبّي: انترمزّو” بساعاته الثلاث ودقائقه الثماني والعشرين، واصل كشيش رؤيته الراديكالية (التي راحت تزداد راديكاليةً)، في تجميع لحظات من زمن ضاع، زمن لا نملك كلّ صوره وكلّ أحاسيسه في المخيلة الجمعية. يعود الفيلم الذي يُعتبر محطة استراحة بين الجزء الأول والثالث، إلى مدينة سيت الساحلية، حيث تلك الشلّة من الفتيان والبنات الرائعي الجمال الذين سبق ان تعلقنا بمغامراتهم. يتابع كشيش النحت في أجسادهم، خصوصاً أجساد البنات، من أوفيلي وكاميليا وشارلوت فسيلين وغيرهن. بعد مشهد تمهيدي يستمر نصف ساعة، يزجّ بنا الفيلم في المكان الذي لن نخرج منه الا في الدقائق الخمس الأخيرة: ملهى ليلي، حيث الأزرق أكثر الألوان دفئاً. طوال ثلاث ساعات، لن يتوقف الفيلم عن التجوّل في بضعة أمتار مربعة. يبحث عن طريقه بين أحاديث الشخصيات الجانبية وأجسادهم المتمايلة على إيقاع الموسيقى الصاخبة وتحت الفلاشات الملونة. يصوّرهم، يلحّ عليهم، حتى الأنفاس الأخيرة أو ما قبلها بقليل، عائداً، في كمية لا تُحصى من المرات، إلى المواقع التي شكّلت نقطة انطلاقة كلّ حركة كاميرا. هذا فيلم عن الرغبة. رغبة تجد التجسيد الغرائزي الأبهى لها في الليل وحفيف الأجساد المعرقة بعضها على بعض وفي مشهد جنس فموي صريح (٢٠ دقيقة) داخل الحمّام أحدث فضيحة مهرجان كانّ ٢٠١٩، ليضع كشيش على عرش سينما الرغبة والشهوة لمرة أخيرة.
تابع/ي القراءة