محور
هويّاتنا الجنسية القاتلة: الاختلاف يفسد قلوباً لا قضايا
لم نعتد في غالبية مجتمعاتنا العربية على إظهار الحقيقة والبوح بها. نشأنا على تمجيد الأعراف وحظر الخروج عليها أو مخالفتها. من هنا، فإن أي سلوك لا يقع في دائرة المعهود والمتعارف عليه، يشكّل صدمة تحض البعض على ردود فعل غير متوقعة وغير مقبولة في أحيان كثيرة.
يا ربّ ما تجرّبنا

أذكر في حيّنا النائي، في قريتنا الواقعة شمال لبنان، تجمّعت النسوة وسط الساحة، بالقرب من الكنيسة القديمة، وبدأن يثرثرن. تعلو حماستهن تارة وتخفت تارة أخرى. اشتعل الفضول في داخلي وأنا أسترق النظر إليهن من نافذة شرفة بيتنا المطلة على الساحة. فجأة تفرقن. علمت من أمي في ما بعد أنهن اتفقن على الذهاب معاً إلى منزل جارتنا ليسكبن لها السحر والرصاص، بعدما اكتشفن أن ابنها مثلي الجنس. “الله ينجينا” أردفت أمي. كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها بلفظة “مثلي”. اعتقدت لبرهة أنه مرض فتّاك ومُعدٍ من كثرة الصلوات التي رفعتها أمي. “يا رب ما تجربنا”، “يا رب تبعدو عن ولادي يا رب”. أما الشاب المسكين، الذي “افتضح” أمر هويته الجندرية في الحيّ، فأنكر الأمر ألف مرة قبل صياح الديك وبعده. بات منزلهم مقصداً لكل من يريد أن يقدم نصيحة أو طريقة ما تخلص الشاب من “علّته”.

لم تستمر الحال وقتاً طويلاً، فقد حزم الشاب أمتعته ورحل. اختار الهرب من التنمر المستمر، والضغط المتصاحب مع دعوته بشكل متكرر لزيارة الشيخ فلان والشيخ علان، لطرد الشياطين من جسده. اختار الهرب على أن يساوم مجتمعاً يهوى النفاق.


© ديفيد هوكني

حال هذا الشاب من قريتنا تتشابه مع قصص شابات وشبان كثر من مجتمع الميم، الذين واللواتي يعانون ويعانين من هوس مجتمعاتهم بـ”المثاليات” التي لا تقاس إلا على شاكلة فارضي الأعراف ورغباتهم. يفضل البعض إخضاع أي مختلف، وإرغامه على مناقضة حقيقته فلا يضلّ عن القطيع. يصفقون له ويحتضنونه بالرغم من أنهم يدركون أنه يكذب ويغلّف رغباته برداء رقيق سيتمزق عند أقرب فرصة. فلماذا تصرّ مجتمعاتنا على إخضاع البعض للعيش بهويتين متناقضتين؟

من أبرز الهويات الجندرية المختلفة: المثليون والمثليات و والعابرات جنسياً والمتغيرون جنسياً وثنائيو الجنس. الجنس هو مجرد تصنيف يشير إلى الخصائص البيولوجية التي يحددها الطبيب عند الولادة، بناء على الأعضاء والكروموسومات التي يولد بها الإنسان. أما الجندر أو النوع الاجتماعي فهو مصطلح يرتبط بالأدوار الاجتماعية التي تحدد بعيداً عن عباءة الذكورة والأنوثة، أي مجموعة السلوكيات التي تعبّر عن هوية الفرد الحقيقية وكيفية تعبيره عن ذاته ومشاعره من خلال اللباس والسلوك والشكل الخارجي. من أشهر الأمثلة “كوكب زحل”، الشاب الذي طرق باب النجومية في لبنان والعالم العربي مقدماً نفسه بهويته الحقيقية: مثلي الجنس يؤدي استعراضاً فنياً متقن الحرفية من خلال ما يعرف بـ”الدراغ كيون” أو “فن الجرّ”. 

كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها بلفظة “مثلي”. اعتقدتُ لبرهة أنه مرض فتّاك ومُعدٍ من كثرة الصلوات التي رفعتها أمي: “يا ربّ ما تجرّبنا”، “يا رب تبعدو عن ولادي يا رب”…

“أخرجوا الى العلن ولا تخافوا”

يحظى “كوكب زحل” على موقع “إنستغرام” بنحو 13 ألف متابع، وبعدد كبير من الفيديوهات التي يقدمها تنتشر بسرعة البرق على مختلف منصات مواقع التواصل الاجتماعي. عانى الشاب، واسمه الحقيقي زياد، من صعوبات ومشاكل مع عائلته عندما كشف لهم ميله الجنسي للمرة الأولى. لكنه استطاع أن ينتصر، نتيجة إصراره والتحاقه بالجامعة في بيروت واستقلاله المادي. يقول: “تقبلتني عائلتي كما أنا في نهاية الأمر، والسبب الأساسي أنهم يعرفون أنني سعيد بما أنا عليه، هذه هويتي الحقيقية وأنا فخور بأنهم الآن يساندونني. فلو لم أحصل على دعمهم أولاً لما حصلت على دعم آلاف الناس اليوم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي”.

دخل زياد عالم “الدراغ كوين” عندما كان طالباً جامعياً: “كنت طالب مسرح في كلية الفنون، وكان لدينا في السنة الأولى حصة دراسية اسمها فنون مشهدية. في موعد الامتحان اخترت أن أقدّم “ليدي ماكبث”، إحدى الشخصيات الرئيسية في تراجيديا الكاتب الانكليزي الشهير وليام شكسبير، على طريقة “الدراغ كوين”، وحصلت على تشجيع ودعم كبير من أستاذي وزملائي. أذكر يومها أنني قدمتها بطريقة كوميدية جداً واستمتع الأساتذة بالعرض وضحكوا كثيراً، فنلت العلامة الأعلى في الصف. منذ ذلك الحين قررت أن أمتهن فن “الدراغ كوين”، ولا  أزال إلى اليوم أقدّم عروضاً فنية مبهجة”.

نظراً لكون زياد حظي بدعم أفراد عائلته عندما أعلن عن هويته الجندرية، لم يكن صعباً أن يتقبلوا دخوله عالم “الدراغ كوين”، بالرغم من غرابة هذا الفن بالنسبة إلى البعض. فبعيداً من الحلقة العائلية الضيقة، يضطر المثليون إلى مواجهة مجتمعهم الأكبر، تماماً كما فعل زياد. هنا تكثر التحديات، وتحاصر هؤلاء المواقف الصعبة التي لا تخلو من المخاطر. “من الضروري” بحسب “كوكب زحل”، “أن يتسلح كل مثلي بثقة كبيرة بالنفس. فما ميّزني هو أنني لا أخاف بل أضع نفسي في خطوط المواجهة الأمامية لأنني مقتنع بما أنا عليه ولا أجد داعياً للتراجع أو الخوف أو التخفي”.

“إن أصعب ما نواجهه على مستوى الدراغ كوين هو التنمر والمضايقات وخصوصاً إن اضطررنا أحياناً إلى استخدام وسائل النقل العام. هذا فضلاً عن أننا لا نملك أماكن كثيرة لتقديم العروض”

يضيف: “أعرف أنني ربما حظيت بظروف جيدة مقارنة مع مثليين آخرين، لكني أرغب أن أسخّر ما أملك من جرأة وقوة ومساحة اجتماعية اكتسبتها تدريجياً لدعم المثليين الآخريين، وأقول لهم أخرجوا إلى العلن ولا تخافوا، واجِهوا أي متنمر أو حاقد، فمصير هؤلاء أن يعتادوا ويتأقلموا ويعترفوا بوجود كل المختلفين، فعلى هذه الأرض ما يكفي من المساحات لكل الناس”.

رغم نظرته المتفائلة يحاول زياد أن يكون واقعياً: “في مجتمعنا لا نتمتع بحقوق الإنسان البديهية فما بالك بحقوق المثليين والمثليات!”. يصمت برهة ثم يضيف: “واقع مرير لكن المرتجى والأولوية بالنسبة لنا هي شطب المادة 534 من قانون العقوبات اللبناني التي تحظر إقامة علاقات جنسية بما “يخالف نظام الطبيعة” ويعاقب مخالفها بالسجن لمدة سنة. وهي المادة التي تستخدم لتجريم المثلية وقد شهدنا فصولاً متعددة في لبنان تعرّض فيها مثليون للإهانة استناداً إلى أحكام هذه المادة”، مشيراً إلى أن “تطبيق أحكام هذه المادة غالباً ما يؤدي إلى ظهور العصبيات لدى بعض الأشخاص الذين قد يستغلون اي حدث لكي ينقضّوا على المثليين، لذلك من الأولوية بالنسبة لنا أيضاً أن نحظى بالحماية القانونية الكاملة ولا سيما من أي هوموفوبيا قد تؤثر علينا على مستويات عدة”. يتابع: “أما على مستوى الدراغ كوين فإن أصعب ما نواجهه هو التنمر والمضايقات وخصوصاً إن اضطررنا أحياناً إلى استخدام وسائل النقل العام. هذا فضلاً عن أننا لا نملك أماكن كثيرة لتقديم العروض. جميعها محصورة داخل بيروت وبأعداد قليلة. أما الأولوية بالنسبة إلينا كدراغ فهي غياب الأرشيف. فمن دون شكّ لست أنا أول “دراغ كوين” في لبنان، هناك من كان يقدّم عروضاً في الستينات والسبعيات ولكن بسبب الخوف من الملاحقات لم يوثّق أحد تاريخ “الدراغ كوين” في لبنان. وأعتقد أنه يجب علينا أن نبدأ بفعل هذا الآن”.

“الترانس”: فصام بطاقة الهوية اللبنانية

ليس بعيداً من معاناة المثليين يقف العابرون والعابرات جنسياً. لكن لهؤلاء حكايات أكثر تعقيداً مع النظام اللبناني المكبّل بالجنس والطائفة والمذهب ومكان الولادة. هل فكّر أحد كم يحتاج من الوقت والجهد والطاقة لمتابعة معاملة رديئة يطلب فيها تغيير اسمه؟؟ بعدما استخلصت الجواب، فكّر مجدداً كم تحتاج من الوقت والجهد والطاقة والأعصاب والصبر لتقديم طلب لتغيير جنسك في بطاقة هويتك؟  

ليا، ترانس جندر، منحدرة من شمال لبنان، عانت كثيراً ولا تزال من مقاطعة أهلها لها بسبب هويتها الجندرية المختلفة. في كل اتصال هاتفي بينها وبين أمها تهدر نصف ساعة من حياتها في التبرير والاستماع إلى كلمات الشكوى والعتب. ليس من شيء أصعب من أن تشعر بأن الحبل السري بينك وبين حضنك الأول يطول يوماً بعد يوم، شهراً بعد شهر، عاماً بعد عام، ولا قدرة لك على بتره نهائياً. “حاولت” تقول ليا. “حاولت أن أكون كما أرادوا. أن أكبت رغبتي في هذا العبور لكنني لم أستطع. قاومت هذه الرغبة 27 عاماً. حاولت أن أبقى “طبيعية” كما يقولون، لكن الاستمرار كان مستحيلاً. كان ذلك أصعب مما أعيشه اليوم. ها أنا عبرت وأصبحت أنثى متماهية مع حقيقتي الجندرية تماماً، وبالرغم من أنني لا أرى أفراد عائلتي لكنهم يعرفون أنني سعيدة بما أنا عليه ومتصالحة مع ذاتي، وهذا يكفيني”.

ليا، ترانس جندر عانت كثيراً ولا تزال من مقاطعة أهلها لها بسبب هويتها الجندرية المختلفة. في كل اتصال هاتفي بينها وبين أمها تهدر نصف ساعة من حياتها في التبرير والاستماع إلى كلمات الشكوى والعتب

تشير ليا إلى أن “خيار العبور كان صعباً جداً خصوصاً أن البيئة الحاضنة لي، وسدّ المناعة والدعم الذي كنت أتكئ عليه انهار. فقد خسرت كل دائرة الدعم والأمان التي كانت في حياتي. تركت عملي وانتقلت إلى بيروت. هنا بدأت حياة جديدة، ولا أنكر أنني ربما كنت من المحظوظات اللواتي استطعن الحصول على عمل ومنزل يؤويهن. ففي أي مكان ومع أي شخص يحكمون عليك بمجرد أنك “ترانس”. كأن هويتك وحضورك يبدآن هنا، وهنا ينتهيان ، فلا يتكبدون عناء النظر أو التدقيق في أي شيء آخر: تحصيلك الجامعي، سيرتك الذاتية، أخلاقك، قيمك، طموحاتك…. يجب أن يفهم الناس أن الترانس هوية من هويات كثيرة. فأنا إنسان قبل أي شيء، وأنا كنت معلمة، والآن أنا ناشطة حقوقية، وكل شخص عابر يملك الكثير من الأشياء التي تستحق الالتفات إليها بمعزل عن هويته الجندرية”.

تحكي ليا عن صعوب التجربة: “العبور من جندر إلى جندر آخر يحتاج إلى فترة تأقلم، تُعرَف بالفترة الانتقالية. في هذه المرحلة يسهل على الناس التعرّف إلى الشخص العابر. ومما لا شكّ فيه أنه سيتعرض إلى التنمر والمضايقات من عدد كبير من الناس أينما كان. لكن الوضع سيتغير مع الوقت، فأنا الآن يعاملني الجميع على أنني أنثى، لأنني فعلاً بتّ أنثى مكتملة العناصر”.


© هنري سكوت تيوك

بالرغم من ذلك لا تزال تحركات ليا محصورة داخل بيروت، وحتى داخل أماكن محددة في بيروت، والخوف ليس نابعاً من الناس ونظراتهم وتحديقاتهم المستمرة، بل من القانون الغائب الذي يجعل العابرين والعابرات لقمة سائغة في فم القوى الأمنية. فبحسب ليا “لا يمكن للعابرين والعابرات جنسياً تغيير نوع الجنس أو الإسم على بطاقة هوياتهم إلا تحت شروط تعجيزية، منها أولاً أن يجروا عملية التحوّل كاملة، أي أن يقدموا على تغيير أعضائهم التناسلية، وهذا أمر صعب نظراً لكون معظم العمليات لا تتم في لبنان، وهي مكلفة جداً، وقلّة تملك القدرات المادية للسفر وإجراء العملية في الخارج. كذلك، يضع القضاء شرطاً تعجيزياً آخر يتمثل في إجبار العابرات على أن يثبتن أنهن غير قادرات على الإنجاب. وهذا أمر مجحف ويحرم عدداً كبيراً منهن الأمومة إن كانت لديهن الرغبة في ذلك”. تضيف: “من هنا فإننا عالقون بين فكّي كمّاشة. ويزداد الأمر تعقيداً عند اصطدامنا بحاجز أمني مثلاً. ففور طلبه للهوية أشعر بأن المشكلة قادمة. ينظر إلى الصورة فيجدها نفسها، أي حالي الآن كأنثى، لكن الاسم ذكر والجنس ذكر. يصاب العسكري بالتوتر وتكرّ سبحة الأسئلة. لا يمكن أن ننكر أن هذه المواقف محرجة وبشعة، ليس فقط بالنسبة إلينا بل للعسكري أيضاً، وخصوصاً أن غالبيتهم ليس لديهم اي إدراك أو وعي حول مفاهيم الجنسانية والجندرية. بعضهم قد يتهمك بأنك زوّرت الهوية أو جواز السفر، وهو أمر يودي بنا إلى المخافر، وهنا تبدأ الرحلة التي لا يمكن أن تنتهي على خير. من هنا، تتمثل أولويتنا اليوم، في وضع إطار قانوني يحمينا ويعطينا الحق في أن نعيش حياتنا بشكل طبيعي وتلقائي، فما نريده هو أن نكون مواطنين فعليين، نتمتع كسوانا بالحقوق والواجبات نفسها. لا شيء أكثر صدِّقوني. ولا شيء أقلّ”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

للإشتراك في نشرتنا الدورية