يوسف رخا - سبتمبر 14, 2021
© اندره ماسون
لم تكنِ العروبة قُبلةً عميقة تحت أمطار أجنبية، وإنْ بدا أنها كذلك. لم تكن مضاجعة شرسة في فندق، ولا تسلُّلاً خجولاً على عتبات صَمَتَت عن الترانيم الجنائزية لتستقبل أعضاءً كهربتْها الرغبة. لم تكن العروبة لمعان أجسادٍ تمور بخمر لا يتسنّى دائماً تقطيره. وهل كل شهوة صالحة للاستخدام الفوري؟ ليس غصباً، لكن السنين التي مرّت منذ اشتهيتُ العروبة احتمالاً معاصراً وغير مؤدلج للهُويّة، شَوّهتْ في رأسي صورةَ ذلك الاحتمال. وبينما أبكي الناسَ والأشياءَ أدركتُ أنني كنت أُقحمه على المشهد. لا. لم تكن العروبة بطئاً بارعاً في انتظار الهَزّة. لم تكن سعياً حثيثاً وراء هزة، مع أطراف الأصابع، بالشَفَتين واللسان لعقاً أو حديثاً حميماً أو بذيئاً عبر أثير يعُجّ بالمتربصين. لم تكن حَلمة نافرة أمام ثَغر يَفترّ، أو انتصاباً مرناً كعود صفصاف يتمايل فوق طين ناعم، يترقّب إشارة البدء حتى يغور في لَحمه. كل هذا كان، وكان عربياً. لكنه لم يكن عروبة. فبينما نحن نتصالح مع غياب الخصوصية والحرمان من حرية الحركة، بينما يتزوج أكثرنا ليس ليختبر طريقة حياة أو يبني أسرة ولكن فقط ليكون عارياً مع آخرَ لم تتسنَ له معرفته جيداً، كانت العروبة تغرق أعمق وأعمق في أوحال الاستحالة. حياة تدفع إلى الموت، أو حياة ليست من أجل الحياة. ولم تكن الهوامش أفضل كثيراً من المتون كما ظنناها. يا حسرة! كنا نجعل المستحيل ممكناً أو هكذا ظننا، حين اختبأنا وراء الشاشات واتبعنا أعرافاً جديدة. لكننا لم نسمّ نفسنا عرباً أبداً. لا للأسف. لم تكن العروبة فرحاً. وكانت رشاش دماء وكُسارة عظام. كانت جذوعاً عارية تتلوى في الظلام على بلاط وسّختْه كلاب مُدرّبة. وكانت هياكل غرقى تحملها أمواج المتوسط شَمالاً إلى أن تتيبّس وتنتفخ ويقضم السمك أطرافها. كانت فصائل مسلحين يحلمون بالعيش في القرن السادس. وكانت زعماء سفلة.
العروبة كانت قهراً. كانت مواعظ كريهة الرائحة لا تنتهي إحداها حتى تبدأ أخرى. ثم إنها كانت كذباً أو تجارة. كانت أموالاً طائلة وفضائح كبيرة أو صغيرة في المدن الأجنبية
© عادل مفديش
كانت مسلحين يقطعون الأطراف والرؤوس وكانت غير مسلحين يدافعون عن أفعالهم. يتشنجون وكأنهم يمسكون الله من زَمَّارة رقبته. العروبة كانت قهراً. كانت مواعظ كريهة الرائحة لا تنتهي إحداها حتى تبدأ أخرى. ثم إنها كانت كذباً أو تجارة. كانت أموالاً طائلة وفضائح كبيرة أو صغيرة في المدن الأجنبية. وكانت نساء في أجولة سوداء يدافعن عن الحرية الشخصية. كانت نساء بلا وجوه وتشوهات على جباه رجال تُعامَل بوصفها أوسمة. نساء يُحبَسن ويُغتَصبن، وأخريات يمتن قبل أن يعرفن هزة واحدة رغم عمر كامل من المشاحنات. اليوم حين أستحضر تلاحم جسمين يُشعِرهما أو أحَدَهما بالتئامٍ كان انتظاره مؤلماً، أعرف يقيناً أن لا صلة لذلك بالعروبة. وكذلك حين تداعبني فكرة وفاء جلد إنسان لجلد إنسان آخر، هو وحده يجعله نضراً وناعماً وسط مدابغَ كاملةٍ من المُتيّمين. كانت العروبة سماءً تشرَبها عيْنا شابٍ سقط مصاباً على الأسفلت يتضوّر في جحيم الغاز المسيل للدموع. وكانت شاباً يمد يداً كالمَخلَب إلى جسم فتاة لا يعرفها ولا يعرف لِمَ. كانت شُباناً يحوّطون تلك الفتاة مثل قطيع من أشياءَ لها أنياب يحوط فريسة. هم أيضاً لا يعرفون لِمَ. وعندما انشق الأديم وانفجرت النيران ودوّمت سيارات الإسعاف، كانت تكالباً على الجرحى وخشوعاً زائفاً وحروباً أهلية، وقودها غيبيات قديمة، غيبيات كأنها جراح موروثة لم تُفلح الشبكة العنكبوتية في مداواتها. العروبة كانت جرياً على أرصفة زلقة وكانت انزلاقاً. كانت دعارة مثلية من أجل رجال أجانب حيث لا يمكن لبنت البلد أن تكشف حتى شعرها براحتها. كانت ضحكاً غبياً وسباباً كالغناء. كانت صراخاً، يا ربي. وكانت ملابسَ ممزّقة. خلال عقدٍ من دورات الأرض حول الشمس منذ انسكبتِ العروبة أجساداً فتيّة في الشوارع تحمل لافتات وتصخب من قبلِ أن تعرف طريقها، كنت أبحث عنها بلا جدوى حيث سقطت الأجساد وتفرقت. وظللتُ أشتهيها في غيابها.
كانت العروبة نساء بلا وجوه وتشوهات على جباه رجال تُعامَل بوصفها أوسمة. نساء يُحبَسن ويُغتَصبن، وأخريات يمتن قبل أن يعرفن هزة واحدة رغم عمر كامل من المشاحنات
لكن العروبة لم تكن فراشات تتكاثر على سطح المعدة، ولا ينابيع تتفجّر في العيون. وإن بدا أنها كذلك، لم تكن أبداً ضمن الأشياء الحلوة. وأنا كدتُ أيأس وأنسى حتى بدا لي أني عثرتُ عليها في أرداف ترقص داخل مستودع ناءٍ. فتاتان تتبادلان قبلة شبِقة في صالة بيت متواضع كأنه لأقارب لا أعرفهم. أو ممرضة جميلة حقاً ترقد على ظهرها في ثيابها البيضاء وقد أُقفل باب غرفة صغيرة في مستشفى ضاجّ. تتأوه رعباً ورغبة بينما حبيبها الذي معها يكشف مفاتنها ويطأها واقفاً ويصوّر. رأيت رسائل حب وتحدٍّ من حمّامات بيوت عائلات بورجوازية. رأيتُ غراماً صادقاً وحناناً. أكثر من است يولج فيه حِفاظاً على غشاء البكارة، وكأنّ وطء الفتاة من دُبُر لا يُفقدها براءتها. رأيتُ مناكبَ تأوي متشرّدات صفيقات كحيطان بيت، وعرفتُ أن العروبة ليست كما بدت لي في احتجاجات الشوارع مستحيلة. كانت الفيديوهات الخاصة قد بدأت تظهر على المواقع الإباحية، نعم. كانت سرعة الشبكة نفسها قد بدأت تتيح الفرجة على فيديوهات. ولا أعرف ماذا دهى كل أولئك الذين يرفعون صورهم المتحركة أو أحبابهم. لم يكن شراً مطلقاً ولم يكن تجارة. وبدا لي أن في التقاء الأجساد هكذا على الملأ أملاً جديداً في عروبة حية. جدوى أجساد تتوخّى الرغبة أكبر من جدوى أجساد تتوخى الموت، هكذا قلتُ لنفسي. حتى إن لم يكن ذلك مقصوداً أو متّفقاً عليه، حتى إن لم يكن الدافع وراءه سوى التجريس، كانت مشاهد العري والتهتك التي ظهرت بالتزامن مع الاحتجاجات كما صُوِّرت في فترة الترتيب للاحتجاجات إيذاناً بعروبة تتجاوز أصفاد الهوية من أجل أن تُطلِق أعضاءنا، من أجل أن تنهمر سوائلنا أغزر وأقوى من كل أمطار أوروبا. وتتسع عيوننا في الضوء. وهل في كل ثورات العالم ما هو أكثر أو أبعد أو أهم من أن نملك أجسادنا حقاً؟ أن نذهب بها حيث نشاء ونضعها في خدمة مَن نشاء؟ وهل من سبيل آخر إلى الصدق والعفة في الأمور التي لا يكف الواعظون عن أن يلوكوها بأبوية تقتل عصافيرَ مزقزقةً في الصدر وتحيل الاستمناء قيئاً بلا مقدمات؟ فبينما نقطع الصحارى على أرجلنا ونجوب البحار في قوارب مَطاطية سرعان ما تكبنا في الأعماق، بينما نتشرّد في الطريق إلى بلاد الحقوق والحريات حيث نُهان بذنب ديارنا التي طردتنا منها أسلحة مستوردة من البلاد نفسها، كان شيء آخر يعبر المحيط من عندنا إلى آلهة التجارة والإعلانات شَمالاً وغرباً. الممرضة التي لم يسعفها الوقت في خلع ملابسها فظلت الطرحة على رأسها صارت مذهباً من مذاهب الإثارة مدفوعة الأجر. بلا ضرورة درامية، حين يكون جسم الممثلة عارياً بالكامل، في المقاطع الموسومة بالعروبة تظل على رأسها طرحة سوداء غالباً لا أعرف علام تدل تحديداً. الآن هنا كل شيء كما كان فهل هذا كل ما في الأمر؟ عشر سنين مرت ولم نزدد إلا تهجيراً وسجناً وموتاً بلا طائل. لم تكن التضحيات من أجل أن نتقيّد أكثر، لكنهم خرجوا وعادوا ولم ينطق أحد. ومَن يقمعون الاحتجاجات يتضامنون مع المحتجين في ملاحقة أصحاب الأجساد الحية، هل هذا معقول؟ عادت المقاطع الإباحية تُسيّس، تُستخدم سكيناً على عنق من يخالف وفي ابتزاز الخارجات على الأصول، الثائرات والحالِمات والأمل الوحيد في أمومة تعتقنا مرة وإلى الأبد. حتى هناك، في العالم الآخر، كانت تفاصيل المتعانقين في فيديوهات هواتنا المسربة تتحول إلى استعارات معتمدة لخطوط إنتاج جديدة في مصانع البورنو. كانت الإهانة على سبيل الإثارة، فأصبحت العروبة فتاة تسلّم جسمها لغريب لأنها لاجئة لا تملك سكناً. يتحول حياؤها المصنوع والطرحة على رأسها إلى مجون لا يشبه تهافتاً عربياً. فأغادر الموقع وأعود إلى الأخبار لأرى أجسادنا تتعرى اعتقالاً وقصفاً على الشاشات. المباني تنهار كأنها قطع دومينو. أرانا مضطرين مرة أخرى للخروج من البيوت والبلاد وحياة لا تشبه الحياة. أرانا على وشك المغادرة. لا. لم تكن العروبة قبلة أو مضاجعة. لم تكن ثورة حتى. وربما لم تكن موجودة أصلاً، لا في رؤوسنا ولا في الواقع، إلا أننا شعرنا بها هناك ولم نخف. لم نغمض عيوننا عن الرغبة. وانتظرنا.
وهل في كل ثورات العالم ما هو أكثر أو أبعد أو أهم من أن نملك أجسادنا حقاً؟ أن نذهب بها حيث نشاء ونضعها في خدمة مَن نشاء؟
تابع/ي القراءة