قضايا
سجن الأمومة
قد تكون الأمومة فرصة المرأة الكبرى لفهم لغز الحياة، وقد تكون سجنا يحجب عنها الحياة. الأمومة تروِّض الإيغو بشكل واضح وتجفف آبار الأنانية بصورة تلقائية. فحين تقرر الأم أن تنجب طفلاً، تجازف بخسارة قوامها وشكلها المعهود. عضلات الحوض تتحرك ولا تعود إلى مكانها، الجلد يترهل، يتساقط الشعر، تنسحب الفيتامينات من الجسم وينقص الكالسيوم في العظام. يحتاج جسم الأم أكثر من خمس سنوات للتعافي من حمل واحد.
تجربة روحانية

أثناء الحمل تتعلم الأم المنتظرة أن تخرج من نفسها وتركز على هذا الكائن الذي ينمو في أحشائها. تعيد ترتيب أكلها وأوضاع نومها وطريقة مشيها وحتى طريقة اغتسالها وباقي عاداتها لتتوافق مع وجود هذا الكائن ونموه. يستمر هذا التكرس بعد أن تلد، فتكون ٢٤ ساعة في خدمة ورعاية الطفل الذي يعتبر امتداداً لجسدها. لا يوجد وقت يمكن أن تسترخي فيه الأم وتنسى أنها مسؤولة عن شخص آخر مسؤولية كاملة.

 

© هيلين كرم

الحمل والولادة يعلّمان الأم التواضع والعطاء، ليس بطريقة تدريجية وإنما دفعة واحدة. بعض الأمهات يعشن أثناء الحمل حالات روحانية يصفنها بأنها نور يسطع أو نار تشتعل في داخلهن. السبب في ذلك هو الخروج من دائرة الأفكار اليومية وتركيزها مع حياة جديدة تنشأ وتكبر تحت أنفاسها. وهذه في حد ذاتها تجربة روحانية كبيرة حين لا ينغمس الإنسان في رغباته ومخاوفه الشخصية وحين يراقب حياة جديدة منذ البداية. بعد الولادة، تهذب الأمومة ومسؤولياتها الأمَّ وتجعلها أكثر هدوءا وصبرا، تعلمها الحضور والوعي بكل التفاصيل المحيطة بها، وهي حالة يحاول الكثيرون الوصول إليها بالتأملات أو التمارين أو العلاج النفسي، لكن الأم تحصل عليها بشكل طبيعي.

 

المشكلة تبدأ حين يغيب الاعتدال. حين تتماهى المرأة مع دور الأم تماماً وتنسى أنها امرأة وإنسان في المقام الأول ولها احتياجات أخرى خارج أسوار الأمومة. فالرجل يظل رجلاً بعد أن يصير أباً، أما المرأة فتتحول إلى أمّ فقط، وتعرّف حياتها لا من خلال هويتها وإنما من خلال دورها الاجتماعي والأسري. الاعتدال هو ألا تتخلى الأم عن مسؤوليتها تجاه طفلها، ولكن لا تنسى أيضاً الجوانب الأخرى من حياتها التي لها الأهمية نفسها، مثل وعيها بذاتها وتطورها كإنسان، ليس فقط كأمّ.

الأمهات الفارغات من الحياة يلدن أفواها، لكن لا ينجبن حياة. والأمهات اللاتي يحببن أنفسهن يعطين حباً وينجبن حباً!

بين الترويض والإنكار

الكثيرون يخلطون بين ترويض الإيغو وإنكار الذات. ترويض الإيغو يعني عدم تغذية الكذب والغضب والطمع والصراعات. أما إنكار الذات فهو التوقف عن النمو والتطور والبقاء كشخصية مبتورة غير مكتملة تكتفي من الحياة بتحقيق رغبات الآخرين ورؤية الرضا في عيونهم. ترويض الإيغو هو الخطوة الأولى في طريق تحقيق الذات. بينما إنكار الذات هو الخطوة الأولى للانكسار والانسحاق أمام الآخرين. ترويض الإيغو يجعل الإنسان قائماً بذاته ومستقلاً عن الآخرين، وانكار الذات يتطلب كيانا يختبئ وراءه الإنسان، ككيان الأمومة أو الزواج أو الأسرة أو الدين أو أي جماعة ينتمي إليها الإنسان.

 

الكثير من الأمهات لا يخترن أن ينجبن، ولا يخترن الظروف البيولوجية المحيطة بعملية الحمل ولا يخترن الشروط الاجتماعية المحيطة بالأمومة. هن محاصرات في تواطؤ بيولوجي اجتماعي يجعلهن خادمات قديسات. تقديسهن مشروط بكمّ الخدمات التي يقدّمنها. وهذه الشروط تجعل المرأة تشعر بالذنب أحياناً لو انسلخت من دور الأم لدقائق لتقرأ أو لتذهب في نزهة لتقضي وقتا قصيرا مع نفسها. على الجانب الآخر تتخذ كثير من الأمهات أطفالهن عذراً لعدم تحقيق الذات وعدم تحقيق أي شيء خارج دور الأمومة. الغريب أن المجتمع يكافئها على أنها تركت دراستها أو عملها أو أهملت هواياتها من أجل أطفالها، بينما هي في الغالب لم تصنع شيئاً سوى الهروب من الذات ومن الحياة بإسم التضحية والتفاني.

© فرنشسكا وودمان

الأمهات بارعات في أن يجعلن من العجز فضيلة، ومن الانكسار تضحية. وكلما زاد انكسار الأم زاد تقديس المجتمع لها، فالدين يقول لها إن الجنة ستكون تحت أقدامها، وجائزة الأم المثالية لا تذهب الى امرأة حققت انجازاً لذاتها بل الى امرأة حرمت نفسها من التعليم والحياة والحرية والصحة من أجل أبنائها. السبب وراء ذلك هو حالة من الفصام في مجتمعاتنا التي تقسم النساء صنفين: الأم المقدسة برّ الأمان والحضن الدافئ، التي تضحي ولا تطلب شيئاً لنفسها، والمرأة مكمن الشهوات ووكر الشياطين التي يحاول المجتمع كله السيطرة على رغباتها ومشاعرها وملابسها ويخاف من تقلبات مزاجها وانفلات زمام حبها. حتى الشعراء لم يفلتوا من هذا الفصام. فتجد الشاعر يتحرك بزورق مشاعره بين حبيبته وأمه، يبحث عن الأم في حبيبته ويبحث عن الإلهة الأسطورية في أمه، تجده يشرب النبيذ مع حبيبته، لكنه يحن إلى خبز أمه وقهوتها، تجده يشجع صديقته على ممارسة الجنس معه بلا زواج، لكنه يغني لطهر أمه التي يتوضأ النور في عينيها حين تقوم الى صلاة الفجر، والتي ضحت بشبابها بعد وفاة زوجها من أجل أولادها. لا يدرك صاحبنا أن أمه امرأة في المقام الأول قبل أن تكون أماً، وقد تكون لديها الرغبة أيضاً في أن تحب رجلاً غريباً وتعاشره أو على الأقل أن تشرب معه القهوة لولا حصار المجتمع لها: “لا.. أمي أنا؟ مستحيل!”، يقول صاحبنا. المجتمع يرفض ذلك وشاعرنا المرهف المناصر لقضايا المرأة يرفض ذلك أيضا. لا يدرك أن الأمومة قد تكون كميناً تسقط فيه النساء أحيانا بلا رغبة ولا خيار، وأن الرحم التي يمجدونها قد تكون مجرد ورطة تحصر النساء في دور واحد وتقطع عليهن ألف طريق آخر إلى الحياة…

العطاء الحقيقي هو عطاء الشجرة التي تعطي لتحيا، لا تعطي لتحمّلنا جميلاً

الفرار الى حضن الأم

الرجال الشرقيون بصفة عامة تربوا على التعلق المريض بالأم والخوف المريض من الأب، والفرار من الأب إلى حضن الأم ثم الفرار من الأم إلى دور الأب القاسي المهزوم في الوقت نفسه. لذلك تقوم علاقتهم مع النساء في الغالب على مبدأين: الفرار والاستخدام. التحرش فرار واستخدام. الاستجداء فرار واستخدام. التعنيف والعنف فرار واستخدام. البكاء على صدر الحبيبة أو الأم فرار واستخدام، إذا كانت الدموع مصدرها دور الضحية أو الاستعطاف أو الاعتذار. حتى إنجاب الأطفال قد يكون نوعاً من الفرار والاستخدام أيضا، إذا كرر الأب مع أولاده مأساته نفسها أو استخدمهم كعذر لإخفاقاته.

 

هكذا يصير من الصعب الخروج من هذه الدائرة المغلقة، لأن الأم تفقد الأدوات التي تجعلها تعيش حياة صحية بدون اشخاص متعلقين بها ويحنّون إلى خبزها. لا تعرف الأم ماذا يمكنها أن تفعل إن لم يعد حولها أشخاص تخدمهم وتسهر على راحتهم. وبما أنها فقدت الطريق الى ذاتها، تحتاج أن تجعل حياتها تتمحور حول أولادها وأكلاتهم المفضلة ومواهبهم ويومياتهم في المدرسة. بعض الأمهات ينشرن كل يوم صورة لأبنائهن على الفيسبوك أو انستغرام، ويحكين عن مواقف حدثت للأبناء، لا لهنّ. وحتى حين يلتقين بصديقاتهن، تكون لدى هؤلاء الصديقات أطفال، فيلعب الأطفال مع بعضهم وتحكي الأمهات عن مشاكل الأطفال ونوادرهم. وهكذا تصير الأم فارغة من نفسها وممتلئة بالآخرين طول الوقت.

 

لذلك تسقط الكثير من الأمهات في اكتئاب حين يكبر أولادهن ويذهبون للدراسة في جامعة بعيدة أو يتركون البيت للزواج. فتعود الى ألبوم الصور القديم لاجترار ذكريات الماضي. تبحث فلا تجد لحظة جميلة واحدة عاشتها وحدها. كما يحدث شرخ في بعض العلاقات الزوجية بعد خروج الأولاد من البيت، لأن الأولاد وخدمتهم والخوف عليهم كانوا يُخفون الثغرة في العلاقة. وحين تنكشف الثغرة تبدأ المشاكل، ويبدأ الحنين الى مصدر جديد يعطي معنى للحياة. فترى الأم التي كانت قديسة في الأمس تشعر بالرجفة اذا وصلتها رسالة من شخص غريب على وسائل التواصل الاجتماعي فيها بعض المديح أو مجرد تحية. ولأنها مكسورة وانفعالية بطبيعتها، لا تمتلك القدرة على التفريق بين الزيف والحقيقة، وبين الحب والتعلق. فجأة تصير هي الطفل الذي يحتاج الفهم والرعاية والتكرس. وإن لم تجد الأم مغامرة تعوّضها عن الفراغ، تجدها تلاحق أولادها وتتدخل في حياتهم وتذكّرهم بتضحياتها من أجلهم وتقهر زوجة ابنها لأنها تتمتع بقدر من الحرية التي لم تعرفها هي. وهنا ينفضح العطاء الذي لم يكن واعياً، لأن من يعطي غيره بغير طيب خاطر، هو يلقي عليه وعلى نفسه عبئا ثقيلا. فالعطاء الحقيقي هو عطاء الشجرة التي تعطي لتحيا، لا تعطي لتحمّلنا جميلاً.

تتخذ كثير من الأمهات أطفالهن عذراً لعدم تحقيق الذات وعدم تحقيق أي شيء خارج دور الأمومة

إنجاب الحب

© جابر علوان

بعض الأولاد ينتظرون من حبيباتهم وزوجاتهم التكرس نفسه والتضحية وإنكار الذات الذي تلقوه من الأم. وبعض البنات يرثن من أمهاتهن الانكسار والفهم الخاطئ لإنكار الذات والتفاني. لا يرثن من أمهاتهن شخصيات قوية بل بعض وصفات الطعام وبعض النصائح كيف تحتفظ بزوجها وكيف ترضيه. كثير من هؤلاء البنات انفعاليات وعاطفيات بشكل مبالغ فيه، ينبهرن بكلمات الغزل الفارغة وكثيراً ما يكرسن أنفسهن لعلاقات عاطفية مسمومة قائمة على الاستغلال والانسحاق والخوف من الفقدان. هكذا تتكرر المأساة جيلا بعد جيل. وهكذا صرنا مجتمعات غير قادرة على الحب، لأن الحب يحتاج شخصين واعيين وقائمين بذاتيهما، لا بشرا آيلين الى السقوط يبحثون عمن يرممهم! السبب هو الآباء الذين يخفون ضعفهم خلف العنف أو الغياب، والأمهات المكسورات المهزومات اللاتي ينجبن بنات وأبناء مكسورين ومهزومين.

 

الأمهات الفارغات من الحياة يلدن أفواها، لكن لا ينجبن حياة. والأمهات اللاتي يحببن أنفسهن يعطين حباً وينجبن حباً! النساء اللاتي لم يخترن أزواجهن يصبحن خانعات راضيات بأقدارهن، متواطئات مع سجونهن. أما المتمردات اللاتي لم يَعْرِضن أرحامهن للإيجار فلا يحاربن فقط مجتمعاً ذكوريا يحاصرهن، بل يحاربن الشعور بالذنب الذي صار جزءا من تكوينهن وفهمهن لأنفسهن كنساء.

حرية المرأة تبدأ بالتحرر من عقدة الذنب هذه واكتشاف المرأة لفرديتها ككائن مستقل عن لوم المجتمع والدين والأبناء ومديحهم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

للإشتراك في نشرتنا الدورية