“جسد” تعود مرّةً ثانيةً إلى الصدور، بعد عشر سنواتٍ بالتمام والكمال من توقفّها. عشر سنوات عاش خلالها العالم العربي ثورات متتالية مجهضة، وويلات وحروبًا ومآسي إنسانية لا يستوعبها عقل ولا ضمير. عشر سنوات ازدادت فيها تفاقمًا الأسبابُ التي استدعت إصدارها للمرّة الأولى، ولا سيّما منها ما يتعرّض له الجسد من انتهاكات وإذلالات على أيدي النظام الأبويّ الذكوري من جهة، وأنظمة القمع السياسيّة الديكتاتوريّة من جهة ثانية.
فالجسد العربيّ، والجسد مطلقًا، بات الآن، وأكثر من أيّ وقتٍ مضى، مختبرًا مأسويًّا لشتّى أنواع الاسترخاص والاستعباد والاستغلال والاستخدام والتعذيب، وبأساليب أكثر مكرًا ونفاقًا وحداثةً، حيث يُستخدَم الذكاء البشري استخدامًا مريعًا لتسليع هذا الجسد أو لقمعه، ولا سيّما جسد المرأة والفئات المجتمعيّة الهشّة والمهمّشة.
منصّة “جسد” تعود الى الصدور إذًا، لتكون رأس حربةٍ في هذه المواجهة التي لا هوادة فيها، وللانقضاض على هذه السياسات المتخلّفة وفضحها وتعريتها من جهة، وتمكين الشخص البشريّ من امتلاك الكفاءات والأدوات التي تحصّنه، بهدف تحرير جسده تحريرًا كاملًا من كلّ ارتهان واستعباد وتسليع وتكبيل، ومنح هذا الجسد أيضاً وخصوصاً حقّه في الاحتفاء والتلذّذ بذاته وبجسد الآخر، ومعه، احتفاءً وتلذذًا طليقين من المحرّمات البائدة والمعايير المزدوجة والمنظومات الظلامية، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية، التي تقيّد المتعة أو تسلبها أو تحوّلها “خطيئة” أو تجعلها ترفًا أو تعاقب عليها.
وإذ تعود “جسد” الى الصدور اليوم، فهي تتخذ من الانترنت مساحةً لها، مع كل ما بات يقدّمه زمننا الحديث من عناصر إضافية، سمعية/ بصرية/ تفاعلية. أي أن كلمة جسد وصورتها وفلسفتها سوف تحيا أيضاً في فيديوهات وبرامج مخصصة لمجرّة الجسد. وسوف يكون متاحًا على الموقع تصفّح الأعداد القديمة التي واظبنا على تقديمها طوال عامين، بين ٢٠٠٩ و٢٠١١. ووفقًا لمنطق الإصدار الانترنتي ومتطلباته، سوف ننشر مواد جديدة بإيقاع يومي، على أن يتحوّل المضمون المنشور، في ولادتها الجديدة هذه، الى عدد كامل متكامل كل ثلاثة أشهر، يضاف الى أرشيف الأعداد، ويكون أيضًا قابلًا للطباعة لِمَن يفضّل الاحتفاظ بها ورقيًّا.
لجمهور “جسد” الوفي الذي ما برح يفتقدها ويسأل عنها ويطالب بها طوال الأعوام العشرة السابقة، نقول: ها نحن عدنا إليكنّ وإليكم، بزخم أكبر وتصميم أشدّ على اقتراح مواضيع وأفكار، وتقديم تحليلات، وابتداع مقارباتٍ خلاّقة ومتطوّرة وشجاعة، معمّقة ومتنوّعة، في عمليّة المواجهة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والجنسية الشرسة التي لا رجوع عنها، والتي أخذناها على عاتقنا للمساهمة في فضح هذين النظامين، النظام الأبوي الذكوري والنظام السياسي الديكتاتوري، اللذين يتعمّق تحالفهما وتكاتفهما لجعل الجسد رهينةً أبديّةً تكفل تجذرهما في المجتمعات، واستمرارهما الهمجيّ والدنيء في إهانة الشخص البشريّ.
فعلى إيقاع التقدم التكنولوجي الذي يطاول المجالات كافّة، الجسدية والنفسية والعقلية والمادية والفكرية والثقافية والإعلاميّة والأدبية والفنية، يتوغّل هذان النظامان توغلًا لا سابق له في مجال استحداث سياساتٍ مبتكرةٍ لتتفيه الجسد وتشييئه وتسليعه وجعله ممسحةً لكلّ الموبقات والجرائم التي تُرتكب باسمه.
* غلاف العدد الأول” ملكة الجرّ “سلطانة” بعدسة المصوّر أنطوان فاضل.
جسد المرأة في منصة “جسد”، ومعه جسد كلّ اللواتي والذين يتعرضون للاضطهاد الجسمانيّ والنفسيّ، سيكون منارةً للانعتاق والخلق والفضح والتعرية والتعبير عن المواهب والآراء والأفكار، من أجل جعل مجتمعاتنا العربيّة أشدّ اقترابًا من الحرية، التي وحدها تمنح الإنسان، امرأةً أكان أم رجلًا، قيمته الفريدة، وتجعله قادرًا على عيش حقيقته وأداء دوره الكامل في الحياة.
“جسد” تشكر اللواتي والذين يرافقنها ويرافقونها في انطلاقتها الجديدة هذه، ويساهمون بملكاتهم الخلاقة في جعل هذه الولادة مشعّة، كما ترحّب بالمواهب الحرّة الشجاعة الجريئة المثقفة والعالمة، وبكل الاقتراحات الجديدة التي من شأنها أن تملأ نواقصها، وتوجّه نداءً حارًّا للمساهمة فيها إلى كلّ الكاتبات والكتّاب والفنانات والفنانين والمفكّرات والمفكّرين والناشطات والناشطين المعنيين بالجسد من كلّ أنحاء العالم العربيّ، ومن العالم أيضًا، بما يجعل منصّتها مساحةً رحبةً وطليعيةً وبيتًا للمسكونات والمسكونين بهمّ الجسد ومعاركه، كما برغباته وشهواته.
“جسد” هي منصة لكل أشكال الحرية الأدبية والفنية والفكرية والاجتماعية والجنسية. هيا نصنعها معاً!
تابع/ي القراءة