عندما كنت صغيراً، كان أصدقائي في المدرسة في بيروت يسخرون منّي وينعتونني بالـ”بنّوتي” لأنّ صوتي كان ناعماً، و”حركاتي” أنثوية، ولأني لطالما فضّلتُ القراءة على كرة القدم. كنت في الصّف الأوّل الإبتدائي عندما نادوني “بنّوتي” للمرّة الأولى. لم أفهم آنذاك معنى هذه الكلمة. لكنهم كلما نادوني بها، كانوا يدفعونني على الأرض ويعزلونني، فأبكي وأنزوي ويغمرني شعور بالذل والإحباط. بالعربي المشبرح: “كنت حسّ حالي غلط كل الوقت”.
كانت حياتي كابوسًا
هذا كان واقعي خلال سنوات المدرسة، من الصفوف الابتدائية إلى نهاية الصفوف الثانوية. كانت حياتي كابوساً فقط لأنّني كنت أتصرّف وأمشي وأتكلّم بطريقة مختلفة عن بقيّة الصبيان، ولديّ سمات لا يتوقعها المجتمع اللبناني الذكوري في الشباب. كنت رهينة نظراتهم وأحكامهم طوال الوقت. “ليش بتمشي متل البنات؟”، “ليش بتحكي هيك؟”، “شدّ حنكك!”. جلّ ما كنت أريده هو أن يحبّوني ويتقبّلوني على طبيعتي، وأظنّ أنّ هذا حقّ كل كائن بشري. الأسوأ من ذلك أنّني كنت أخاف أن أدافع عن نفسي لئلا يضربوني أو يُسمعوني كلمات تجرح مشاعري أكثر. لذلك كنت أشتكي عند الإدارة أو الأساتذة، ولكن لا حياة لمن تنادي. كانت المديرة تنظر إليّ وتقول: “طب ليش ما بتخشّن صوتك؟ ليش ما بتمشي أركز شويّ… انت رجّال، شو بك؟!”. لقد كافحت كثيراً لأكسب فخر معلّميّ وزملائي. كنت أدرس ليل نهار لأكون الأوّل في الصف وفي كلّ المواد. إليكم ما كانت تقوله لي المعلّمة أمام التلاميذ جميعاً: “محمود عندو IQ كتير عالي، بسّ لازم يشدّ براغيه شويّ”. لا يهمّ كم درست وكم كنت مهذّباً، فقد كنت دائماً ضحيّة النقد والتمييز لأنني “بنّوتي”. هذه الصفة هي، على ما يبدو، جريمة في المجتمع الذكوري اللبناني. كنت أرفع رأسي إلى السّماء كلّ يوم واسأل الله: “ليش خلقتني هيك؟”، وأرجوه أن يشقّ الأرض كي تبلعني.
لا يهمّ كم درست وكم كنت مهذّباً، فقد كنت دائماً ضحيّة النقد والتمييز لأنني “بنّوتي”. هذه الصفة هي، على ما يبدو، جريمة في المجتمع الذكوري اللبناني
… والرياضة هي الجحيم
إذا كانت حياتي كابوساً لا نهاية له، فإن صفوف الرياضة كانت هي الجحيم. كان زملائي الشباب يهزأون بي كلما دخلتُ الحمّام، وكان بعضهم يقرصني في مؤخرتي. لأتخلّص من التنمّر، كنت أدّعي المرض كي لا أشترك في حصة الرياضة. أذكر كما لو كان اليوم، عندما سألني الأستاذ لماذا امتنع عن متابعة النشاطات الرياضية. حين قلت له إنّني “مريض”، نظر إليّ وقال: “آخ يا محمود، كان لازم الله يخلقك شي تاني”.
كانت تتكرر هذه المواقف خلال طفولتي ومراهقتي في لبنان، على الأخصّ في المدرسة. كلّما أراد أحدٌ الإستهزاء بي، قارنني بفتاة أو أطلق عليَّ أوصافًا يراها المجتمع في النساء كما لو كانت شيئاً فظيعاً. أذكر أنّني رفعت يدي مرّة في صفّ الفيزياء لأطلب الإذن كي أذهب إلى الحمّام فحدّق بي الأستاذ وصرخ: “ايه روح. شو إجاك الميعاد؟”، فانفجر التلاميذ بالضحك وخرجت من الصالة خفيض الرّأس حابساً دموعي. في حين سرت إلى الحمّام، تذكّرت أنّ في العام الذي فات، مررت بموقف شبيه. كنت أتكلّم إلى صديقتي في الصف حينما كان الأستاذ يشرح الدرس. أعترف بأنني كنت خاطئاً، لكن ما قاله الأستاذ مروع أكثر. توقّف عن الشرح، نظر إليّ وصرخ أمام جميع التلاميذ: “سدّ تمّك أحسن ما أصفقك كفّ، أعملك رجّال”. تناهت إليّ من بين التلاميذ همهمات الدهشة وعبارة: “يااااااااا يااااااا”. حبستُ دموعي، نظرتُ إلى الأرض وبقيت صامتاً.
© خسرو حسن زاده
كانت إجابتي دائماً هي الصمت. المجتمع اللبناني الذكوري كان مخطئا حيالي، لأنني لا أتصرّف أو أعبّر عن نفسي بطريقة ينتظرها هذا المجتمع من الشباب والرجال. كنت أشعر بالذنب وأجبر نفسي على أن أتغيّر. حاولتُ أن أخشّن صوتي، وأكون أكثر “ذكورية”، ولكن من دون جدوى. لم أفهم لماذا يريدني النّاس أن أكون أكثر ذكوريّة اذا لم يكن في استطاعتي أن أكون كذلك؟! كان يستولي عليَّ الإحباط الذي ازداد كلّما مرّت الأعوام، فأروح أدفن رأسي في الكتب ليل نهار، كما تعودت أن أفعل دائماً. وعلى رغم أنّ ثقتي بنفسي وعزّتي كانتا ممرغتين في الأرض، كنتُ دائم التفوق في المدرسة، ولطالما كان اسمي مدرجًا على لائحات التفوق. كان حلمي أن ألقي خطاب التخرج، لذا كرّستُ وقتي في آخر عام دراسي لانتزاع النجاح المتفوق، وقد تحقق لي ذلك، فدعتني معلّمة علوم الحياة ومديرة المدرسة حينها كميليا شبارو لألقي الخطاب في حفل التخرج. خرجت من مكتبها وأنا أقفز من الفرح، لكن فرحتي لم تطل. إذ سرعان ما بدأ بعض المعلّمين بالاعتراض: “ليش اخترت محمود؟ كتير نعّوم، وكتير بنّوتي! المناسبة بدّا تلميذ أركز. رجّال أكثر”. كدت أخسر فرصة تحقيق حلمي للسبب الذي حوّل طفولتي ومراهقتي إلى جحيم. كنت على وشك الإستسلام حين وقفت مسّ كميليا في وجوههم ودافعت عني قائلةً: “محمود سيلقي خطاب التخرّج لأنّه يستحق. لن أحرمه ذلك من أجل شيء بيولوجي في جسده ليس بإمكانه التحكم به”.
في ذلك اليوم، لم أستطع أن أحبس دموعي. بكيت من الفرح لأنني شعرت للمرّة الأولى في حياتي بأن أحداً يفتخر بي ويتقبلني كما أنا.
في ذلك اليوم، لم أستطع أن أحبس دموعي. بكيتُ من الفرح لأنني شعرتُ للمرّة الأولى في حياتي بأن أحداً يفتخر بي ويتقبلني كما أنا
بحثاً عن الحرية
بعد التخرّج، تركت وطني وعائلتي وأحلامي ولغتي الأم وسافرت إلى البرازيل باحثاً عن الحرية، لأكون نفسي وأفتخر بذلك، لكني حملت معي كل جروح الماضي معي. استغرقني الكثير من الدراسة والمعالجة النفسية هنا في البرازيل لأتقبّل هويتي الجندرية كرجل، وتعبيري الجندري يتأرجح ويتمايل بين الذكورية والأنثوية، ولأفهم أنه ليس في استطاعتي ولا في استطاعة الآخرين التحكم بهويتي الجندرية أو بتعبيري الجندري.
بإمكاني أن أكون رجلاً “بنّوتي” وأن يكون صوتي ناعما وان أكون مثليّ الجنس، وهذا لا يقللّ رجوليتي، لأن هويتي الجندرية في عقلي وليست في صوتي
بالمختصر المفيد، أنا رجل بنّوتي و”ما فيا شي”. بنّوتيّتي لا تلغي رجوليتي.
© ديان أربوس
إني بصفتي عالم نفس واختصاصيا في الجنسانيّة والعلاج الجنسي، أؤكد لكم أنه ليس من الضروري أن أكون ذكورياً و”ماتشو” و”ألفا” لأكون رجلاً. بإمكاني أن أكون رجلاً “بنّوتي” وأن يكون صوتي ناعما وان أكون مثليّ الجنس، وهذا لا يقللّ رجوليتي، لأن هويتي الجندرية في عقلي وليست في صوتي ولا في رغباتي الجنسية ولا في الطريقة التي أمشي بها. لقد مضى الوقت حين كنت أخجل من نفسي وأبكي كلما نادوني بـ”البنّوتي”، لأنني لا أتصرّف وأتكلّم مثل “أبو العبد”.
أنا رجل “بنّوتي” ومثليّ الجنس بكلّ فخر، وأعشق كلّ جزءٍ من نفسي وأتمنّى من كلّ قلبي أنّك أيضاً تحب كل جزء من نفسك لأنّ من يعشق كل جزء من نفسه، “بعيش حياتو” ولا يتدخل في حريّات الآخرين الشّخصية.
تابع/ي القراءة