لا يمكن أن أتحدث عن الـ”دراغ كوينز” أو “ملكات الجرّ” في المغرب، من دون أن تقفز إلى ذهني صورة تلك الخصور الراقصة اللماعة في ساحة جامع الفنا بمراكش، حيث تحتفي “لحلْقة” (الأكورا) يوميا بالتعدد والتنوع في التعابير الفنية والثقافية؛ من حكي إلى رقص فألعاب خفة وترويض أفاع وقراءة طالع وجلب الحظ حتى. هو نفسه فضاء للحرية وكسر التابوهات في قوالب استعراضية فرجوية، تجتمع عليها أذواق ذات خلفيات مختلفة، ثقافية ودينية. هناك يتحلق السياح وأهل البلد، حول أجساد فارعة مشدودة، تلف خصورها أحزمة “ناسفة” لقواعد الجاذبية وللكثير من الصور النمطية عن الذكورة والأنوثة معا.
تشهد الساحة بالفعل، كلّ مساءٍ، ومنذ سنوات، عروض الرجال الراقصين بأزياء نسائية: قفاطين وجلابيب براقة، وجوه متوارية خلف لُثُمٍ سود، فيما تظهر العيون ناعسات يحيطها الكحل وبعض ألوان الزينة. يتسمّر الجمهور متعطشا لبداية العرض. وما إن يبدأ الموسيقيون في العزف، حتى تهتز تلك الأجساد بحركات موزونة، مرنة وقوية في آن، بحيث يستحيل على المشاهد للمرة الأولى أن يجزم إن كان الراقص رجلا أم امرأة. ليس مهما، المهم متعة الفرجة! لكن الحقيقة أن هنالك تقليدا راسخا منذ عقود يمنع النساء من الرقص علانية في الساحة، بينما لا ينطبق الأمر على الرجال المتنكرين بأزياء نسائية.
عشق الرقص الشقيّ
الموضوع بالنسبة إلى عبدو، الذي تجاوز عقده الرابع وهو أحد الرجال الراقصين في الساحة، قصة عشق شقي للرقص والأزياء النسائية، حيث ارتبط بهذا الفن منذ طفولته، سواء من خلال ترحاله على المواسم والأسواق مع والده، الذي كان عازف دف ضمن فرقة شعبية، أو عبر مرافقته لجدته التي كانت تشتغل مساعدة لمُزيّنة عرائس “نكّافة”. “ربما لأني كذلك ولدت في مدينة ألفت الحلايقية على أشكالهم، لم أفكر في الأمر كثيرا حينما اقترح عليّ صديقي محمد الالتحاق بالفرقة”، يحكي عبدو بحماسة عن بداياته في الساحة دون علم أهله، فبفضل التنكر واللثام لم يكن ممكنا التعرف عليه، “طيلة خمس سنوات كل مساء كنت أرقص وأنا أرى جوقة المتحلقين تكبر فأشعر وكأني أملك العالم، وفي مرات عديدة قدمنا عروضا في فنادق فخمة بمراكش”. يتوقف عبدو قليلا عن الكلام ثم يسترسل: “أنا في الساحة حليمة، وبمجرد أن ينتهي العرض أعود عبدو، الزوج والأب”، ثم يضيف: “أنا لست امرأة في جسد رجل، أنا رجل أحب الرقص والأزياء النسائية، ولو كنت في بلد أجنبي لرقصت بوجه مزين مكشوف وشعر مستعار كذلك، لكنّي لا أستطيع أن أتحمل بأن يُعيّر أبنائي بوالدهم مثلما عُيّر والداي بابنهما ‘المخنّث'”.
“أنا في الساحة حليمة، وبمجرد أن ينتهي العرض أعود عبدو، الزوج والأب. أنا لست امرأة في جسد رجل، أنا رجل أحب الرقص والأزياء النسائية”
حسناء، في أواسط العشرينات، دراغ كوين تقدم عرضا في أحد النوادي الليلية بمراكش، تستعيد أيامها “القليلة” في ساحة جامع الفنا بمأسوية كبيرة. فـ”الوضع الطبيعي” بالنسبة إلى المتفرجين أن لا يخرج ذلك المظهر من إطار الـshow، “لكنهم كانوا يفاجأون حينما يدركون أن مظهري لا يختلف كثيرا بعد انتهاء العرض، إذ كنت أتعرض للتحرش والهجوم وحتى للتهديد بالاغتصاب والقتل في الساحة كما في الحي حيث كنت أقطن، لولا أن سيدة بلجيكية تملك بيتا للضيافة في المدينة العتيقة، توسطت لي عند صاحب النادي الليلي حيث أشتغل منذ سنتين”. حسناء تريد أن تجمع المال لتقوم بعملية جراحية لتغيير الجنس، لكنها ومنذ سنة بدأت بأخذ العلاج الهرموني، وقد سافرت حتى تركيا لتحصل عليه بشكل طبي وآمن. ففي المغرب لا يوجد أطباء يوفرون هذا النوع من المتابعة لصيرورات العبور: “سأواصل حتى أتخلص من هذا الجسد الذي يطبق على أنفاسي، وسأصبح أشهر من نور”، تؤكد حسناء في إشارة إلى الراقصة المغربية نور (نور الدين سابقا).
أمام الملك الحسن الثاني
في العودة قليلا إلى حقبة الأبيض والأسود وبداية التلفزيون المغربي، وإلى جانب كونه واحدا من أهم رواد فنّ “العيطة” الشعبي وتحديدا “العيطة المرساوية”، يمكن اعتبار الفنان الشعبي بوشعيب البيضاوي بدوره أيقونة لفن الجر، حيث مثّل ظهوره بشكل وزي نسائيين ضمن الأعمال التي كانت تقدمها فرقة “الكواكب” المسرحية برئاسة الطيب لعلج سنوات الستينات، سابقة من نوعها في مجتمع عربي مسلم لا يتسامح البتة مع أي خدش للرجولة. استطاع البيضاوي أن يقتحم بيوت المغاربة بل ويأسرهم بأزيائه وأدائه الجسدي المتميز من خلال العروض الغنائية لفرقته التي أسسها رفقة صديقه عازف الكمان الفنان الماريشال قِيبٍّو. يمكن النظر إلى تجربة بوشعيب البيضاوي كتجربة نضال ومقاومة كذلك، ضد العرف إياه الذي يمنع النساء من الرقص أمام العموم، حيث جسّد البيضاوي حضورا نسائيا منقطع النظير ليكون أوّل دراغ كوين مغربي/ة تستعرض أمام الجمهور على الخشبة والشاشات، بل ومباشرة أمام الملك الراحل الحسن الثاني نفسه.
© Ya Biladi
هذه التجربة نفسها، هي التي اختارت فرقة المسرح البيضاوي منذ سنة 2014 أن تكرمها من خلال عرض “كباريه الشيخات”، في إشارة واضحة إلى المغنيات الشعبيات اللواتي غنّين النضال والمقاومة سنوات الاستعمار بالرغم من كل الوصوم القدحية التي كانت تلصق بهنّ. كما يشكل العرض انتصارا كبيرا لفن العيطة وفن الجرّ معا، حيث يقدم أعضاء الفرقة وصلات غنائية وراقصة بأزياء نسائية وشعر مستعار وماكياج صاخب. العرض الذي أثار جدلا كبيرا منذ بداياته، بين آراء مستحسنة وأخرى مستهجنة، استطاع في النهاية أن يستقطب جمهورا واسعا ومتنوعا، يتفاعل بإيجابية وإعجاب مع العرض، وخصوصا بعد مشاركة الفرقة في مهرجان البولفار سنة 2017، الذي كان فرصة للخروج من الفضاءات المغلقة نحو الفضاء العام، وهو ما أعطى شحنة إيجابية للفرقة لتشتغل أكثر على عروض “كباريه الشيخات”.
الخلط المنهجي وتهديد الحياة
لكن، بعيدا من سياق الاستعراض والفرجة، وحتى بعض الاعتبارات “الطبقية” التي قد تبيح كل محظور في محيط مخمليّ، وبالنظر إلى واقع الأمور، نجد أنه في المجتمع، كما في القوانين، يغلب ذلك الخلط المنهجي، ما بين الـدراغ كوينز/ كينغ كفن استعراضي، وما بين المثليات/يين والعابرات/ين كهويات جندرية، وهو الخلط البديهي الناتج، أولا، من التصنيفات الجاهزة والمحدودة المبنية على الوصومات والقوالب، حيث أن الرجل “رجل” ويجب أن يكون قوي البنية والشكيمة وتظهر عليه “الفحولة”، فيما المرأة “امرأة”، ويفترض فيها الأنوثة والغنج والحياء في آن. أي خروج، ولو شكليّ، عن هذين الإطارين، هو من منظور المجتمع “شذوذ”، وفي نظر القانون “إخلال بالحياء العام”. من جهة أخرى، فإن المرجعية الدينية، التي تشكل الجزء الأساسي في ثقافة المجتمع المغربي، ترفض شكلا ومضمونا أي تشبه للرجال بالنساء والعكس، بل قُرن الفعل باللعنة في عديد من الأحاديث، يمكن أن نذكر منها على سبيل المثل، لا الحصر، حديث ابنِ هريرة حينما قال: “لَعنَ رسُولُ اللَّه الرَّجُلَ يلْبسُ لِبْسةَ المرْأةِ، والمرْأةَ تَلْبسُ لِبْسةَ الرَّجُلِ” (رواه أبو داوود)، وهو المضمون ذاته الذي ورد في رواية للبخاري عن ابن عباس حيث قال: “لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ”.
في المجتمع، كما في القوانين، يغلب الخلط المنهجي، ما بين الـدراغ كوينز/ كينغ كفن استعراضي، وما بين المثليات/يين والعابرات/ين كهويات جندرية
إن محنة الدراغ كوينز داخل المجتمع المغربي لصيقة بمحنة مجتمع الميم-عين. فبعيدا من سياق الفرجة، تتعرض هذه الشرائح لأشكال من العنف والقمع إلى درجة تهدد الحياة أحيانا، والقصص الموثقة بعناوين الأخبار والفيديوهات التشهيرية، تشهد على عدد من حالات الاعتداء الجماعية والسحل والتنكيل في البيوت وفي الساحات العامة بأشخاص اخترن واختاروا الظهور بمظهر غير ذاك الذي “يجبُ”. سأذكر “واقعة القصر الكبير” سنة 2010 عنوانا لتجاوز الهوموفوبيا والترانسفوبيا المجتمعية حدود الخيال حتى، حيث قامت مجموعات من المواطنين باقتحام بيت قيل أنه يشهد حفل زواج مثلي، فعاثوا فيه ضربا وتخريبا، قبل أن يسحلوا الحاضرين إلى الشارع العام لكي يتسنى لكل أهل المدينة أن يشاركوا في تنفيذ الحكم، بعدما عيّن المتهجمون أنفسهم قضاة وجلادين، باسم القيم والدين، وفي تجاوز تام لمفاهيم الخصوصية والنظام والأمن والمؤسسات.
عن الانترنت
كما يمكن أن نذكر قصة الشاب شفيق لافيد بمراكش، الذي تعرض لاعتداء مضاعف من مواطنين ورجال أمن. تعود أطوار القصة إلى نهاية سنة 2018، وتحديدا ليلة رأس السنة، حيث كان شفيق على طريق العودة إلى بيته بعد سهرة أمضاها في أحد فنادق المدينة، وعلى إثر تماس بسيط بين سيارته وأحد الدراجين، قرر الشاب العشريني أن يعود أدراجه ليتأكد من سلامة صاحب الدراجة، حينها استوقفه شرطي وطلب منه أن يترجّل من السيارة. لكن شفيق، ومثلما صرح للصحافة لاحقا، كان متوجسا من رد فعل الشرطي إذا ما رآه بفستان سهرة قصير وبقايا الماكياج على وجهه “مذ كنت صغيرا وأنا أحب أن أرتدي الفساتين وأتزين، الأمر هكذا ببساطة”. أمام تردد الشاب، كسر الشرطي نافذة السيارة بعصاه، وجرّ شفيق بعنف من السيارة. وإن هي إلا لحظات حتى حضرت عناصر أمنية كثيفة كبلت يدي شفيق وجرته وسط تجمع حشد هائل من المارة يتهددون ويشتمون ويصوّرون بهواتفهم “الفضيحة”، فيما الشاب محاط برجال الشرطة يمشي حافيا بفستانه، ويحاول تجنب الكاميرات مستغيثا بعناصر الأمن أن يمدوه بهاتفه. في اليوم التالي انتشرت فيديوهات ومقاطع تشهيرية مصحوبة بخطاب كراهية وعنف كبيرين تجاه الشاب شفيق، مع أنها المقاطع ذاتها التي توثق لعنف المجتمع وتحامل القانون معا إزاء شخص لم يفعل شيئا سوى أنه لبس فستانا ووضع شعرا مستعارا وماكياجا. وقد صرح الشاب نفسه للصحافة عقب مغادرته مركز الشرطة بأن حياته صارت جحيما، وخصوصا بعدما تم تسريب وثيقة تحمل معطيات شخصية عنه وصار عنوانه معروفا، كما أكد عزمه على متابعة عدد من عناصر السلطة الأمنية بسبب ما تعرض له.
سأذكر “واقعة القصر الكبير” سنة 2010 عنوانا لتجاوز الهوموفوبيا والترانسفوبيا المجتمعية حدود الخيال حتى، حيث قامت مجموعات من المواطنين باقتحام بيت قيل أنه يشهد حفل زواج مثلي، فعاثوا فيه ضربا وتخريبا، قبل أن يسحلوا الحاضرين إلى الشارع العام لكي يتسنى لكل أهل المدينة أن يشاركوا في تنفيذ الحكم
انتهاك مبدأي الحرية والكرامة
وإذا كانت قصة شفيق لم تنته بما هو أسوأ، فهناك حالات غير قليلة – بالرغم من غياب أرقام وإحصائيات مضبوطة- تتكلل بالمتابعة القانونية والعقوبة الحبسية، سواء بتطبيق الفصل 483 من القانون الجنائي المغربي، الذي يعاقب كل “من ارتكب إخلالا علنيا بالحياء، وذلك بالعري المتعمد أو بالبذاءة في الإشارات أو الأفعال، بالحبس من شهر واحد إلى سنتين وبغرامة من مائة وعشرين إلى خمسمائة درهم”؛ مما يترك المجال مبهما ومفتوحا للتأويل والتكييف حول مفهوم “البذاءة”، أو الفصل 489 من القانون نفسه، الذي “يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وغرامة من مائتين إلى ألف درهم من ارتكب فعلا من أفعال الشذوذ الجنسي مع شخص من جنسه، ما لم يكن فعله جريمة أشد”، وهو الفصل الذي قد لا يتطلب تطبيقه حالة تلبّس إذا ما وجد “شهود عيان”. هذه القوانين وغيرها، سواء المتعلقة منها بالعلاقات الرضائية خارج مؤسسة الزواج أو الإجهاض أو حرية العقيدة، فضلا عن انتهاكها لمبدأي الحرية والكرامة، تساهم كذلك في تكريس عدم المساواة على أساس النوع الاجتماعي وحتى على أساس الطبقة الاجتماعية. ومع أن النص لا يُفرّق إلا أن تطبيقه يَختلف بين “الأعيان” و”العوام”.
© Ya Biladi
المفارقة هنا، إن لم أقل المفارقات، هي أن هذين الفصلين – إلى جانب مجموعة من الفصول الأخرى السالبة للحريات- ومع أنهما قد يبدوان في الظاهر مستمدين من مرجعية دينية، مستنسخان في الأصل من “قانون نابوليون” الذي رأى النور في فرنسا سنة 1804، لصاحبه نابليون بونابرت الذي يمثل تاريخيا أحد أهم رموز الاستعمار، الاستعمار نفسه الذي ناضل المغاربة ليخرجوه من وطنهم في أواسط القرن الماضي. ولسخرية الحال فقد قامت فرنسا نفسها، خلال الفترة الممتدة ما بين بدايات القرن الماضي حتى الستينات، بإلغاء جميع القوانين المتعلقة بالحريات الفردية، فيما احتفظ المغرب بالإرث القانوني لمستعمره السابق! وإذ قلت مفارقات؛ فينبغي أن نُذكّر كذلك، بأن جميع المواثيق والاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب والتزم مشروعية وعدالة مضامينها، بل وجاء ذكرها حتى في توصيات دستور المملكة لسنة 2011 باعتباره أسمى قوانين البلاد، جميعها تؤكد احترام الخصوصية والحرية الفردية وحرية المعتقد، مما يضع هذه القوانين في وضعية تنافٍ – على الأقل معنويا – مع هذا الدستور وهذه الالتزامات. كما أن القانون، في مفهومه الحديث، وُجد أساسا لفرض النظام وتدبير العلائق بين المواطنين بشكل يحفظ سلامتهم، وليس بمهمة إرسالهم إلى الجنة! إن معركة فنانات وفناني الجرّ بالمغرب “Drag art” من أجل الحق في الوجود، هي جزء من معركة الدفاع عن الحريات الفردية، التي تُخاض منذ سنوات على جبهات عديدة، بشكل يومي، وبصيغ متعددة تحتج ضد العنف والإدانة الجماعيين، وتحالف سلطة الدين والقانون والمجتمع، في أفق إلغاء القوانين المجرّمة لها واستبدالها بأخرى تحمي الاختلاف، وفي أفق تغيير مجتمعي ينبني على احترام ثقافة حقوق الإنسان والتعايش السلمي. وإلى ذلك الحين، تستمر المقاومة بكل أشكالها.
تابع/ي القراءة