كنت في الحادية عشرة حين دهمني البلوغ. أذكر ذلك جيداً. أذكر أن الجزع استوطن جسدي. غلبني، أو ربما غلب تلك الفتاة التي لم تفقه شيئاً، ولم تسمع يوماً أن للمرأة تطوراً فيزيولوجياً ينقلها من حالة إلى أخرى، من طفلة إلى بالغة، من صغيرة إلى راشدة. أقف في الذاكرة هناك، في تلك المحطة التي راكمت في داخلي خجلاً دفعني نحو الانطواء والخوف من مشاركة التجربة لسنوات
الخوف يحاصرني
© جورج حنا صباغ
يومها شعرت بأوجاع شديدة. اعتقدت كعادتي أن بطني يؤلمني لأنني أرفض انتعال الحذاء وأفضّل الحياة حافية القدمين. “أُطبّش حافية” على حد تعبير أمي وهي تنهرني لعدم تكرار ذلك. لشدة خوفي منها لم أجرؤ على إخبارها بما أشعر. قاومت أوجاعي لساعات، وعندما دخلت الحمّام كان المشهد كارثياً. الدم يملأ سروالي الداخلي. لم يكن لونه عادياً. كان أسودَ داكناً كالليل. مرةً جديدة وضعني القدر اللعين في مواجهة مع صرامة أمي. هو نفسه الخوف يحاصرني. قلت بيني وبين نفسي إنها ستعاقبني عقاباً شديداً لأنني، وفي سني هذه، أتبوّل في سروالي! ارتعشت. توهمت أن السوط سيأكل من جسدي، لذا عليّ أن أتدبر الأمر. رحت أفكر في الحمّام ما العمل لأتخلص من الفضيحة، إلى أن استعادني من ضياعي صوتها وهي تطرق على الباب لتستعجلني في الخروج. أعدت ارتداء سروالي كما هو وخرجت. توجهت مباشرة إلى غرفتي. سحبت سروالاً نظيفاً. خبأته تحت كنزتي. عدت إلى الحمّام وقد كان خالياً من الشاغلين لحسن الحظ. دخلت. بدلت سروالي. فتحت النافذة ورميت السروال الملطخ بالدماء نحو البستان الملاصق لمنزلنا الريفي المتواضع. استقر السروال الأبيض فوق شجرة الليمون. وقفت أتأمله من الشرفة وأنسج في رأسي كذبة قابلة للتصديق استباقاً للأسئلة التي ستنهال عليّ لحظة تعاين أمي المشهد.
طبعاً، لم يكن أمام طفلة بسذاجتي إلا أن تقرر النكران. تخيّلت المشهد في رأسي: ستأتي أمي لتسألني ما هذا فوق الشجرة؟ سأقول “لا أعرف”. ستكرر السؤال بحدة وبنظرة غاضبة. لكنني لن آبه وسأكرر قولي: “لا أعرف. لا دخل لي. لست الفتاة الوحيدة في هذا الحيّ اللعين”. اعتقدت أن الأمر سينقضي بهذه الطريقة.
كان صيفاً حاراً وكنت خائفة. ارتميت في فراشي وغطيت جسدي المرتجف من الفضيحة بالشرشف الزهري الرقيق. لم أبارح مكاني والأفكار تتناطح في رأسي. ازداد الألم في بطني. اعتقدت أيضاً أنه الخوف. ثم، بعد ساعات عدت إلى الحمّام، ويا للمصيبة! الدم! هو نفسه فوق سروالي الثاني النظيف، لكنني هذه المرة أكيدة من أنني لم أتبول فيه!
أذكر أن الجزع استوطن جسدي. غلبني، أو ربما غلب تلك الفتاة التي لم تفقه شيئاً، ولم تسمع يوماً أن للمرأة تطوراً فيزيولوجياً ينقلها من حالة إلى أخرى، من طفلة إلى بالغة، من صغيرة إلى راشدة
خشخشة في البستان
© لميا زيادة
حاصرتني الرعشة مجدداً وانهمرت بالبكاء. ناديت أمي: “تعالي بسرعة”. عندما سمعت بكائي جاءت فزعة هي الأخرى. “أنظري إلى الدم” قلت لها. فأجابت بعدما اطمأنت للأمر: “ييه إجتك!”. نظرتُ نحوها باستغراب كأن عيني تدوران في الفراغ. لم أفهم لكنها لم تقل أي شيء. استدارت نحو خزانة الحمّام وناولتني من يدها فوطة صحية قائلة: “بدلي سروالك وضعي هذه”. هكذا ببساطة.
لست هنا لألوم أمي، وإن كنت في حينها بحاجة ماسة إلى شرح مستفيض عمّا يحدث في جسدي. لكنني أعي الآن أن أمي لم تعِ أبعاد هذا التقلّب المرحلي المهم في حياتي كأنثى. تحوّلي إلى امرأة بلغت سنّ الرشد الجسدي على الأقلّ. ليس سهلاً على فتاة أن تواجه حيضها. بحسب دراسة لصندوق الأمم المتحدة للسكان عام 2018، أربعون في المئة من الفتيات في العالم العربي واجهن تجربتهن الأولى مع الدورة الشهرية من دون امتلاكهن أي معلومة عن الأمر. حتماً أنا واحدة منهن، وربما كانت أمي واحدة منهن أيضاً. ليس سهلاً أن تكتشف الفتاة أن لهذا الجسد آليات أخرى غير تصريف الطعام. ما حدث كان أعمق من قدرة طفلة على استيعابه. طفلة تركتها منظومة المجتمع بما فيه العائلة والمدرسة لتواجه حدثاً علمياً بهذا القدر من الجهل لاعتبارات “العيب” و”التابو”.
أخذت الفوطة منها ولصقتها، “بحسب معرفتي”، فوق السروال وعدت إلى غرفتي بصمت. ارتميت في فراشي. حدقت في السقف مطوّلاً. لا يزال السروال معلقاً فوق الشجرة. فجأة استجمعت قوتي وقلت “يبدو أنه لا مفرّ من ضربات السوط”. اتجهت نحوها. كانت منشغلة في توضيب الغسيل. قلت لها: “سروالي فوق الشجرة”. أخذتها من يدها وشرحت لها بصوت مرتجف ما حدث. لاذت بالصمت لدقائق، ثم نادت أبي. في اليوم التالي، قبل صياح الديك، سمعت “خشخشة” في البستان. نهضت مسرعة من الفراش ومددت رأسي من نافذة غرفتي المطلة عليه، رأيت والدي يمد عصا طويلة ليرفع السروال عن الشجرة.
عدت إلى الفراش والخجل يأكل أجزائي. شعرت بنفسي يضيق. كيف سردت أمي لأبي ما حدث؟ وكيف كان رد فعله؟ هل تأفف من الفتيات ولعن حظ “يلي بيخلف بنات”؟ أسئلة كثيرة من دون إجابة إلى اليوم.
من تلك اللحظة لم أعد مدللة البيت. تبدل كل شيء من دون إدراك. لم يتكبد أحد عناء التفسير، فوجدت نفسي أهرب إلى صديقاتي، جارات الحيّ لأفهم منهن “شو يعني إجتك”؟
ليس سهلاً على فتاة أن تواجه حيضها. بحسب دراسة لصندوق الأمم المتحدة للسكان عام 2018، 40 في المئة من الفتيات في العالم العربي واجهن تجربتهن الأولى مع الدورة الشهرية من دون امتلاكهن أي معلومة عن الأمر. حتماً أنا واحدة منهن
سرّ الحياة
© هيلين فونكه
أسرد بعد 19 عاماً، وللمرة الأولى، تفاصيل ذلك اليوم. أروي قصتي وفي رأسي أسماء ووجوه لكثيرات أعتقد أنهن قد يعشن التجربة نفسها. على رغم مرور الوقت، وتبدل الزمن، فالكثير من الأمهات في القرى البعيدة ما زلن ضحايا لما ورثناه من تقليد وتزمت وخوف.
بعدها بسنتين، جمعتنا ناظرة الثانوية العامة في مسرح المدرسة وكان يحيط بها عدد من الأشخاص. عرّفتنا بهم على أنهم اختصاصيون من شركة “Always”، أتوا لكي يشرحوا لنا ما هي الدورة الشهرية. انتصبت أذناي لأسمع وأفهم… ولكن بكتمان، وبعدما كان “للي ضرب ضرب وللي هرب هرب”! فإلى اليوم لا يزال يشغلني هذا التناقض في النظرة إلى “الدورة الشهرية”. رغم أنها السرّ وراء استمرار تدفق الحياة، هناك من يصرّ على اعتبارها دنساًّ!
علينا جميعاً الاعتراف بحقيقة واحدة وأكيدة، وهي أن الحيض عنوان الخصوبة والأنوثة في آن، لكن الاعتبارات الاجتماعية وتزاوجها مع الاعتبارات الدينية العقائدية، جعلت من هذه الفكرة تعريفاً ثانوياً للدورة الشهرية، وصبّت التركيز على اعتبار الحيض مرادفاً للعيب والعار في المقام الأول. من هنا، فإنه لا يمكن مصالحة النساء مع أجسادهن ومع مخاض دورتهن الشهرية إلا من خلال إدراكهن الكامل للدور الإنساني الأساسي المنوط بتلك الأجساد. إن استمرار البشرية وتناسلها، أجيالاً خلف أجيال، لهو مرتبط أولاً وأساساً بحيض النساء المجبول بأوجاعهن ودمائهن. أخبرن بناتكن هذه الحقيقة. من حقهن التفاخر بأنهن يحمين من خلال حيضهن سرّ الحياة في هذا الكون.
يجب عليك التعهد بأن عمرك يزيد عن 18 عامًا للدخول إلى هذا الموقع
You must verify that you are over 18 years old to enter this site.