منذ أربع سنوات، حين كنت في بداية النضال من أجل إقرار قانون مدني يحمي الطفلات في لبنان من التزويج المبكر، تلقيتُ خبرًا عنوانه نظيرة الطرطوسي. لا يزال هذا الخبر يسكنني، صورة الطفلة تؤرّق منامي، وجعها يزورني في أحلامي… إبنة الخمسة عشر عامًا، بدل أن تكون في ملعب المدرسة تلهو مع زميلاتها أو في حضن أمّها تمشّط لها شعرها أو في الشارع تأكل البوظة وتعلو السماء قهقهاتها، دفعها الإكتئاب إلى حمل سلاح صيد وإنهاء حياتها بإطلاق النار على رقبتها بعد خمسة أشهر من تزويجها برجل يكبرها بعشر سنين، وبعد معايشتها معاناة إجهاض طفلها في الأشهر الأولى لحملها.
نظيرة التي لم تبح لأحد بوجعها، مكتفيةً، في الأيام الأخيرة قبيل رحيلها عن دنيا ظلمتها، بعبارة “ضايق خلقي”، اغتُصبت طفولتها، وقتلتها بدم بارد. جاء تعليق والدها على الحادثة باعتبارها “قضاء وقدراً، وهذه مشيئة الله، وقد انتهى عمرها”. أيّ قضاءٍ وقدر هذا الذي يرمي بطفلاتنا في فوهة بركان العنف والألم والدمّ؟ وأيّ أهلٍ هؤلاء الذين يتلطّون خلف “مشيئة اللّه” مبررين استباحتهم حياة بناتهن وتدميرهم لها؟ وأيّ دينٍ هذا الذي يجيز تزويج الطفلات على امتداد قوانين الأحوال الشخصية الخمسة عشر؟ وأيّ دولةٍ هذه التي تقف مكتوفة الأيدي متفرّجة على مسلسل العنف اليومي في حق النساء والفتيات، لا بل متواطئة معه؟
أستخدم تعبير تزويج الطفلات” لا زواج القاصرات، للتأكيد أن هذه جريمة تُرتَكب في حقّهن وفقًا لإرادة وقرار العائلة وتجّار الدين والمشرّع “الغافي” والمهووس الجنسي باغتصاب الطفلات
لقد رفعنا الصوت وكتبنا الكثير في السنوات الأخيرة حول قصص مئات الفتيات، مثيلات نظيرة. صدحت أصواتنا في الساحات في وجه المنظومة الأبوية القاتلة. أشبعنا النقاش والكلام حول الآثار المختلفة لتزويج الطفلات، من نفسية إلى إجتماعية فإقتصادية وصحية. هنا أشدّد على مصطلح “تزويج الطفلات” لا زواج القاصرات، أوّلًا للتأكيد أن هذه جريمة تُرتَكب في حقّهن وفقًا لإرادة وقرار العائلة وتجّار الدين والمشرّع “الغافي” والمهووس الجنسي باغتصاب الطفلات الذي يُقدم على هذا الفعل، في ظلّ عجز الطفلة عن تقرير مصيرها وعدم أهليتها لأخذ قرار بهذا الحجم من المسؤولية والعبء. ثانيًا للإشارة إلى أنّهن طفلات ما دمن لم يتممن الثامنة عشرة من عمرهن وفقًا لإتفاقية حقوق الطفل العالمية.
© غيتي
“الوقاحة” المطلوبة
بعد هذا المسار النضالي الطويل، بات من الملحّ أن نكون أكثر راديكالية، أعنف غضبًا، وأن نكون “وقحات” حدّ فضحِ مجتمعاتٍ تبيح التحرّش الجنسي، الإغتصاب، القتل بحجة ما يسمى بـ”الشرف”، ختان الإناث للحدّ من رغباتهنّ الجنسية، العنف القائم على أساس الجنس بأشكاله كافةً؛ مجتمعات تضيّق الخناق وتفرض السيطرة المحكمة على أجساد النساء باعتبارها ملكا للذكور في العائلة، وللمجتمع والأمة؛ مجتمعات ترعب الفتيات منذ صغرهن بكابوس “العذرية”، تربّيهنّ على “الطاعة والعفة والطهارة”، تحجب عنهنّ الحق في الحب والتعلّم حول أجسادهنّ. هذا كلّه في وقتٍ لا تتوانى فيه هذه المجتمعات، بسطوة محكمة من الأهل والمجتمع والدين والدولة، ولو للحظة، عن وأد طفلاتها وسحق براءتهن، واستغلالهن، ورميهن في حضن أوّل غريب بجسد عارٍ، يكون في الكثير من الحالات يكبر ضحيته بعقود، وإكراههن على ممارسة الجنس معه، وتحميلهن عبء الأمومة والأعمال المنزلية بحجّة الشرع والدين والقدر المحتّم على كل من تولد أنثى بأن تكون زوجة وأمّا وبأن تتجنّب وصمة “العنوسة”.
السكوت على هذا الإجرام التاريخي، مساهمة موصوفة في استدامة آليات المجتمع البطريركي وسيطرتها على أجساد النساء والفتيات وحيواتهن
معًا فلنفكّك الحجج العفنة
© وكالة الأناضول
فلنفكّك معًا حجج مجتمعاتنا المنافقة العفنة المذكورة أعلاه، التي تهدف إلى تمييع المسألة الخطيرة، وحجب النظر عن العقدة الأبوية الدفينة في أجساد الفتيات والهوس الجنسي بإحكام السيطرة عليها بأشع الأساليب السلطوية العنيفة. وما الأمثال الشعبية التي تعرّي ثقافتنا الهدّامة والمتحيزة جنسيًا، سوى دليل قاطع على هذه العقد. بين “خذها صغيرة وربّيها على إيديك”، و”سترة البنت جازتها”، و”البنت تجيب العار والعدو لباب الدار”، و”إن مات أخوك انكسر ضهرك وإن ماتت أختك انستر عرضك”، و”البنت يا تسترها يا تقبرها”، و”يا جايب البنات يا حامل الهم للممات”… تبقى فتياتنا يدفعن ثمن هوس “العرض” و”السترة” و”العار” من المهد إلى اللّحد. ويبقى الرجال يعمّقون ويغذّون النظرة إلى الفتيات بإعتبارهنّ آلة جنسية مفعولا بها، طبعًا وشرعًا، فضيلتهنّ غشاء البكارة، ورذيلتهن مخالفة هذا الشرع الذي يصمهنّ بإعتبارهنّ “ناشزات” و”أضلعا” و”عورات”، في الوقت الذي يرتعبون فيه من تحرّر هذه الآلة متسلحين بمنظومة ثقافية وقانونية أبويّة تطبّل لسلطتهم وتدافع عنها بالإسكات والقمع وحتّى بالدمّ. يبقى السكوت على هذا الإجرام التاريخي من المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة، والتكريس المستمرّ لإعتبار أجساد النساء من المحرّمات والممتلكات الخاصة لأي كائن متسلّح بامتياز عضوه الذكري، والعقد الجنسية للرجال الذين تحلّل لهم شهواتهم إمتلاك طفلة وإغتصاب جسدها…، مساهمة موصوفة في استدامة آليات المجتمع البطريركي وسيطرتها على أجساد النساء والفتيات وحيواتهن.
تابع/ي القراءة