كيف تواطأت الأديان مع السلطة والسوق لقهر المرأة
رانيا فتاة مصرية في أوائل العشرينات تعيش في قرية في جنوب مصر. تجلس رانيا مضطربة وهي تتكئ على مقبرة أخيها الذي مات منتحراً. كدمات واضحة أسفل عينها اليسرى وجروح أعلى الحاجب. تفتح كاميرا هاتفها المحمول وتستنجد باكية بالدولة المصرية وبالشرطة لإنقاذها من رجال قريتها الذين اختطفوها ثم ضربوها.
عار رانيا
تلقت رانيا تهديدات جديدة من رجال آخرين في طريقهم إليها بعدما هربت من البيت الذي كانت محتجزة به. قال أحدهم إنه سيدهسها بسيارته وقال آخر إنه سيغسل عارها بسكين. “عار” رانيا، أنها قررت خلع الحجاب ثم آتتها الجرأة أن تمشي في شوارع قريتها بشعرها المكشوف، فرأى رجال القرية أنها مرغت شرفهم في التراب فخطفوها وضربوها كي تغطي رأسها من جديد. جاء أخوها من القاهرة لإنقاذها، فاتهمه أهل القرية بأنه “ديوث” وعديم النخوة، فلا فائدة للرجولة حين تقف مع الجانب “الخطأ” في معركة الشرف. أخوهما الأصغر مات منتحراً قبل فترة قصيرة لأنه تعرض لحملة شنيعة من التنمر والإهانة لانتقاده اضطهاد المسيحيين في قريته. الأخ وأخته يتكئان على مقبرته ويتساءلان أي جرم ارتكبوا ليُعامَلوا بهذه الوحشية. كان جرمهم هو الاختلاف في حظيرة القطيع الذي يرى المختلف منحرفاً ويرى الحُرّ خطراً على السلم العام.
“عار” رانيا، أنها قررت خلع الحجاب ثم آتتها الجرأة أن تمشي في شوارع قريتها بشعرها المكشوف، فرأى رجال القرية أنها مرغت شرفهم في التراب فخطفوها وضربوها كي تغطي رأسها من جديد
في حي المعادي بالقاهرة تمشي طفلة وحدها في الشارع فيستدرجها رجل أربعيني إلى بناية مجاورة ويتحرش بها جنسياً. أنقذت العناية الالكترونية الطفلة من كارثة أكبر، حين شاهدت سيدة ما يفعله الرجل المتحرش بالطفلة عبر كاميرات المراقبة فأسرعت إلى نجدتها. بعد قليل اكتشف الجميع أن السيدة التي أنقذت الطفلة كانت مسيحية، فقال البعض إن الله ستر هذا الرجل وفضحته نصرانية وطالبوا بالعفو عن الجاني طالما لم تفقد البنت عذريتها وقالوا إن الله حليم ستار.
في حي المعادي بالقاهرة تمشي طفلة وحدها في الشارع فيستدرجها رجل أربعيني إلى بناية مجاورة ويتحرش بها جنسياً. أنقذت العناية الالكترونية الطفلة من كارثة أكبر، حين شاهدت سيدة ما يفعله الرجل المتحرش بالطفلة عبر كاميرات المراقبة
في الأسبوع نفسه الذي حدثت فيه واقعة التحرش بالطفلة، ألقت طبيبة مصرية نفسها من الطابق السادس في حي السلام، حين هجم بوّاب العمارة وبعض الجيران على شقتها وأوسعوها ضربا بعدما علموا أن رجلاً يزورها في بيتها. هنا اختفى فجأة مفهوم الستر وحل مكانه نصب المقصلة لأنها كانت امرأة. حين قام الطب الشرعي بتشريح الجثة تم أخذ مسحة مهبلية من الضحية لمعرفة ما إذا كانت مارست الجنس مع ضيفها أم لا، وكأن ذلك سيغير من مجرى القضية أو سيحول جريمة القتل إلى مجرد رد فعل لرجال عندهم نخوة وشهامة.
نساء كثيرات ممن أدانوا هذه الواقعة ركزن على نقطة أن الضحية كانت بكامل ملابسها حين اقتحم الجيران شقتها، وهذا يوضح أن تضامنهن معها كان مشروطاً بكونها “شريفة”. لم يفهمن أن هذا المنطق هو الذي جعل الجيران يكسرون بيت الطبيبة، وهو المنطق نفسه الذي جعل الطبيبة تقفز من النافذة لأنها صدّقت أن “شرفها” أهم من حياتها.
هذا المجتمع المجرم
كل هذه القضايا كاشفة إلى حد بعيد، لأنها تفضح المجتمع بأسره ومفهومه للأخلاق. المجتمع الذي يجعل الطفلة سلعة جنسية حين يسمّيها “عروسة” وهي لا تزال في السادسة، وحين يحجّبها وهي أصغر من ذلك لأن شعرها يثير شهوة الرجال. المجتمع الذي يقول للأب “ان كبر ابنك خاويه” لكنه ينصحه أن “يكسر للبنت ضلع يطلع لها أربعين ضلع”. كما فضحت أيضاً الخلل الذي يصيب علاقة الرجل بالمرأة، وعلاقة الكبار بالأطفال، وعلاقة المسلم بالمسيحي. لقد فضحت هذه القضايا الفقه الإسلامي الذي خصص أبواباً لزواج الصغيرات ولمفاخذة الرضيعات وإتيان البهيمة. الفقه الذي زرع شيطاناً بين كل رجل وامرأة يلتقيان، ولا يسمح بعلاقة أو صداقة بينهما خارج أسوار الزواج، بينما يغض النظر عن التحرش بالأطفال والنساء ويلقي باللوم على المرأة حين تتزين أو تتعطر أو تستقبل ضيفاً. فضحت ثقافة “قطعة اللحم المغطاة لا تجذب الذباب” كما فضحت الشيوخ الذين أسسوا لهذه الثقافة التي لا ترى من المرأة إلا قطعة لحم ولا ترى من الرجل إلا جوع الذبابة. فضحت مفهوم الفقه والمجتمع للستر، الذي يعني في المقام الأول التستر على الرجل ونزواته الطفولية، بينما يقتحم بيت امرأة مستورة في بيتها وكأنها هتكت عرض المجتمع كله. هذا التصور المعطوب للستر هو نفسه قد يسمح لمتحرش المعادي الأربعيني بأن يتزوج ضحيته ذات العشر سنوات حتى “يستر” عليها بعدما “دنسها” هو بنفسه.
فتِّشْ عن الأديان السماوية
من الأقوال الشائعة أن قهر الرجل للمرأة هو من الثوابت التاريخية منذ بداية الإنسان على ظهر الأرض، مثل الحروب والعبودية والعنصرية. لكن الحقيقة هي أن قهر المرأة مرتبط تاريخياً برِدّة حضارية بدأت مع ظهور ما يسمى بالأديان السماوية. فقبل ذلك كانت الطبيعة هي الإله، والمرأة كانت مرادفاً للطبيعة وتجسيداً لخصوبتها وعطائها. كانوا يجسدون عشتار بأثداء وأرداف كبيرة رمزاً للوفرة والعطاء، وكذلك كان ثدي إيزيس يرمز إلى الرحمة والمحبة. حتى بوذا كانوا يصوّرونه بثدي كبير رمزاً للعطاء. تحكي الأسطورة في الديانة الشنتوية أن الإلهة أماتاراسو حبست نفسها في كهف اعتراضاً على عنف أخيها سوسانو، فغاب النور عن الكون، فتجمع الناس حول كهفها وهم يحملون مرآة ضخمة يصوّبونها نحو أماتاراسو فانعكس جمالها إلى الخارج وعاد النور إلى الأرض في صورة الشمس.
شيطنت الأديان أيّ علاقة للرجل بأيّ امرأة غير أمه، وخلقت بذلك رجلاً معقداً ومتوجساً ينظر إلى كل النساء كمشروع خائنات ويجب الحذر منهن وقهرهن سلفاً
لكن مع ظهور فكرة الله الواحد الأحد، تحول تركيز البشر من الأرض إلى السماء بحثاً عن الخلاص والخلود، وآلت مقاليد الأمور إلى الأخ العنيف الذي نصَّب نفسه “بادي غارد” لله الواحد. هكذا أصبحت المرأة دخيلة على الوجود بل حليفة للشيطان في إغواء الرجل وإخراجه من الجنة. وهكذا صدرت التشريعات الدينية بتغطيتها وإعادتها إلى الكهف ورجمها إذا مارست الحب، لأن جسدها ملك أبيها، ثم تنتقل الملكية من الأب إلى الزوج بصك شراء جسد. لذلك فإن كلمة نكاح باللغة العربية تعني الزواج وممارسة الجنس في الوقت نفسه. هكذا غابت الشمس وخلت الساحة للأخ العنيف وسلالته.
الأديان السماوية ليست بالضرورة ضد الحب أو الجنس، ولكن بما أنها احتكرت الحب الإلهي وجعلته يمر بقنوات الخوف والطمع والشعور بالذنب، احتكرت أيضا الحب البشري وجعلته يمر بالقنوات نفسها. فهي تسمح بالحب والجنس طالما يحدث ذلك داخل إطار الدين وتحت مراقبته، أما إذا أحب الإنسان خارج أسوار الدين فهو يواجه المجتمع كله ثم يواجه شعوره بالذنب. الدين الإسلامي مثلاً يرفض الدعارة ويرفض اغتصاب المرأة، لكنه يقبل بأشكال أشبه بالدعارة والاغتصاب حين يحدث ذلك تحت عباءة الدين. فزواج المتعة دعارة، وزواج الصالونات دعارة، وزواج الصغيرات اغتصاب، ولكن طالما حدث ذلك بمباركة الدين فلا ضرر في ذلك. هنا تكمن جريمة الأديان الكبرى، وهي أنها جعلت الرجل والمرأة لا يلتقيان أبداً على أرضية مستوية كشريكين، بل جعلت الرجل هو رأس المرأة كما يقول الانجيل، وجعلت الرجال قوامين على النساء كما يقول القرآن، وجعلت الرجل اليهودي يصلي ويقول: أشكر الله أنه خلقني رجلاً.
ضرب العلاقة الفطرية
هكذا ضربت الأديان السماوية العلاقة الفطرية بين الذكر والانثى التي كانت قائمة على المساواة والندّية والاحتواء المتبادل في مقتل، وقسّمت النساء إلى الأمّ القديسة والمرأة حليفة الشيطان. شيطنت الأديان أيّ علاقة للرجل بأيّ امرأة غير أمه، وخلقت بذلك رجلاً معقداً ومتوجساً ينظر إلى كل النساء كمشروع خائنات ويجب الحذر منهن وقهرهن سلفاً، وهذا التوجس هو سبب التصريح القرآني للرجل بضرب زوجته إذا خاف منها نشوزاً، أي حتى قبل أن تكون ناشزاً.
ربما بدأت شيطنة الأديان للمرأة وتأميمها لجسدها بشكل عفوي غير مقصود بسبب ارتباط الدين بالسلطة السياسية والمجتمعية، ولكن أصبحت هذه الشيطنة وهذا التأميم مقصودين مع مرور الزمن، من أجل حصر الحب والجنس بمؤسسة الزواج وحصر مهمتهما في الانجاب وزيادة أعداد المؤمنين بهذا الدين. الهدف من وراء ذلك هو صناعة قطيع مطيع، من طريق احتكار الجنس والحب. من يريد التحكم في السعر، عليه أن يحتكر السلعة. هذا قانون اقتصادي معرف. بالتالي، على أهل المرأة أن يحافظوا على سلامة البضاعة ويسلّموها إلى المشتري بلا عيب.
صارت المرأة جزءًا من آلة القمع حين تماهت مع الجلاد وتواطأت مع جدران سجنها، وصدّقت الخدعة الكبرى حين قالوا لها إن شرف الأسرة كلها أمانة بين فخذيها فأصبحت تشعر بأهميتها وكأن الأسرة منحتها قلادة شرف
أين المرأة من هذا كله؟
ألقينا باللوم على الدين والرجال وديناميكية السوق، ولكن أين المرأة من هذا كله؟ أليس لها قولٌ في هذه التجارة التي تُدار فوق جسدها ومشاعرها وحياتها؟ أليس ممكناً أنها صارت جزءًا من آلة القمع حين تماهت مع الجلاد وتواطأت مع جدران سجنها، وحين مجدّت الزي الموحد الذي فرضوه على رأسها؟ تواطأت معهم حين سمحت لهم بأن يحولوا بينها وبين نقاط قوتها: الحَدْس والذكاء العاطفي والاجتماعي والقدرة على الحب. تواطأت معهم حين صدّقت أنها ستكون أنانية لو استخدمت نقاط قوتها. صدّقت الخدعة الكبرى حين قالوا لها إن شرف الأسرة كلها أمانة بين فخذيها فأصبحت تشعر بأهميتها وكأن الأسرة منحتها قلادة شرف، ولكن قلادة الشرف هذه التي تلفّها حول عنقها هي قلادة ذنب مثل سوار المراقبة الذي تربطه الشرطة في أرجل المعتدين جنسياً في بعض الولايات الأميركية كي يُعرف مكان وجود الشخص الذي يهدد أمن المجتمع وكي تتم مراقبة كل تصرفاته عن بُعد. تواطأت معهم حين جعلتهم يستخدمون نفسيتها ومخاوفها بعدما استخدموا جسدها كسلاح ضدها. تواطأت معهم حين صدّقتهم عندما مجّدوا نقاط ضعفها واستخدموها ضدّها وحين أوهموها بأن الجنة تحت أقدام انكسارها وشعورها بالذنب.
لكن بؤرة هذا التواطؤ هي شعور المرأة أنها لا تستحق الحرية ولا السعادة ولا الحب. وبؤرة الحل هي حين تصدّق المرأة أنها تستحق الحرية وأنها قادرة على الحب. حين تعرف حقوقها، ولا تحمِّل نفسها أكبر من طاقتها، ولا تخضع لابتزاز الأمر الواقع ولا تشعر بالدفء بين قطيع الزي الموحد. الحل حين تجد ما يكفي من الشجاعة لتقرّ لنفسها أولاً بأن جسدها ملكها وحدها لا ينازعها فيه أحد، لا والد ولا زوج ولا ابن ولا رجل دين ولا الله نفسه!