كانت المرأة، على مرّ العصور، موضوعاً تصويرياً قائماً في ذاته. أحاط الفن التشكيلي ببعض من جوانب شخصيّتها، مصوّباً نحو حضورها الفيزيائي. البورتريهات التي صوّرت نساء، وجوهاً أو قامات، دخل بعضها التاريخ من الباب الواسع. في بعض الفنون المعاصرة لم يكتفِ الفنانون بالريشة، إذ استعاضوا عنها بالتصوير الفوتوغرافي، الذي ذهب في إتجاهين متناقضين: واحد حداثوي يرى المرأة من زاويته الخاصة، وآخر دعائي سار في طريق الإغواء أشواطاً حوّلت نتاجه سلعة مثل باقي السلع، ضمن أسلوب يتوافق مع الذائقة العامة، محوّراً بذلك العلاقة القائمة ما بين العين والموضوع المرئي.
الكلمة تصنع الصورة
لم يهتم التصوير الفوتوغرافي، في بداياته وفي الفترات اللاحقة،، سوى بعكس الواقع كما هو مع القليل من الإضافات، أمّا في الفنون الحديثة وفنون ما بعد الحداثة، فمن الواضح أن الجمال لم يعد هدفاً في ذاته، ولا نرى لدى المنضوين تحت لواء هذا التيّار سعياً حثيثاً وراء مكوّنات الجمال “الكلاسيكي”. الصور الفوتوغرافية التي تعكس أحوال المرأة وأطوارها، في هذا النطاق، هي تقنية في المقام الأول، لا تسعى إلى تحسين الواقع، بل تسعى، ربما، إلى تحويره، في بعض الأحيان، بما يخدم أهدافاً فنية. على هذا الأساس تصبح موضوعية بالقدر الذي يسمح به المصوِّر، وتكتسب أهميتها بما تثيره من نقاش. الكلمة هي التي تصنع للصورة مكانتها، والكلام المبسّط إزاء المنتج قد يوقع صاحبه في السذاجة والسطحيّة، ويؤدي بالصورة إلى الهلاك.
الفتيات اللواتي خلّدهن هيلموت نيوتن هنّ موديلات نقية مرغوبة، لكنهن لسن فرائس ضعيفة
المحرّك الأساسي
كان المحرّك الأساسي للتصوير – الفن الفوتوغرافي، في بدء مسيرته، البحث عن الموضوعية. وهي موضوعيّة لا تدين بشيء إلى التغييرات المزاجية أو النفسية الخاصة بالمصوّر، وقد لا يكون للأمر علاقة بخياره الشخصي. لكنه كان فناً مطلوباً منه أن يكون على مستوى المرحلة: فن تقني صادر عن الآلة. مسألة الهوية هذه، والنقاش حول نسب التصوير الفوتوغرافي، تنبّه لها لازلو موهولي – ناغي، إذ صرّح بأن مسألة تحديد الهوية الفنية للتصوير الفوتوغرافي لم تعد تشكَل لديه همّاً كبيراً، معتبراً أن القوانين الخاصة لهذا الفن وميزاته، وليس آراء المؤرخين الفنيين، هي التي تحدد من الآن فصاعداً مقياس تطوّره.
بين الحقيقة والأوهام
اعتُبرت المرأة، دائماً، موضوعاً أثيراً في الفوتوغرافيا. في صور إدوار وستون، العائدة إلى الثلاثينات من القرن المنصرم، على سبيل المثل، أصبح الجسد الأنثوي عبارة عن كتلة ديناميكية، بالرغم من وضعيته التي توحي الإسترخاء. كتلة متحرّكة موضوعة تحت المجهر، بحيث تنضح من تفاصيلها الفيزيائية مجموعة من الأحاسيس الملموسة. جسد أقرب إلى المنحوتة الحديثة المرسومة بالأبيض والأسود، ولطالما اعتُبرت هذه الثنائية (مع العلم أن الأسود والأبيض ليسا لونين في الحقيقة) هي الأصلح للتعبير الصافي الذي لا تشوبه شائبة. يخطر في بالنا، هنا، وفي مجال التشكيل التجريدي، المربع الأسود على الخلفية البيضاء لكازيمير ماليفتش، صاحب مذهب “التفوّقية” التي هي في نظره أفضل السبل اللاتمثيلية للتعبير الصافي.
صور ديفيد ديبنتسكي تجنح، من حيث مردودها البصري، صوب الفن التشكيلي في اتجاهاته الرومانسية، وتفوح منها روائح عطور حسيّة، وحتى شهوانية
أعمال هيلموت نيوتن
إمرأة نحيلة، رياضية، كأنّها منحوتة من حجر (كما عند ستون)، تُضاف إلى ذلك تراكيب هندسية، أو لعب على التناقضات المتعاكسة بين الظلال والضوء؛ أسود وأبيض حاد مثير للذكريات مع الكثير من الفكاهة أحياناً، إشارة إلى التاريخ والعمارة والرسم، الكليشيهات المثيرة أو الاستفزازية، وافتتان مفترض بالعُري. كل هذا نراه في صور المصوّر الألماني ذي الأصل اليهودي هيلموت نيوتن، صاحب النتاج الذي غطّى النصف الثاني من القرن الماضي، والمتوفّى عام 2004.
تطرح أعمال هيلموت نيوتن، حتى اليوم، أسئلة كثيرة، وتثير ردود فعل. بعض الصور التي نفّذها اعتُبرت مبتذلة أو مهينة أو غير أخلاقية، من دون الجزم على وجه اليقين ما إذا كانت هذه النظرة الجنسية إلى المرأة تخدم مؤلفها فقط، أم أنها سمحت لكل أولئك “الأمازونيات” الجميلات بتأكيد أنفسهن كشخصيات مستقلّة في مواجهة الأبراج المحصنة والتنانين في عصرنا الحاضر.
“كان لدى نيوتن الكثير من الأوهام والهواجس”، تفيد أرملته جون نيوتن، الممثلة الأوسترالية السابقة التي كانت شريكة حياته لأكثر من خمسين عامًا. “كان هيلموت يحب خلع ملابس النساء وأن يكون استفزازيًا. لقد كسر المحرّمات وفتح الباب للآخرين”، يلّخص مديره الفني نظرته حيال أعمال المصوّر. طويلات القامة، منحوتات مع صدور عارمة، عيون ممتلئة فخراً، بملابس صغيرة، الفتيات اللواتي خلّدهن هيلموت نيوتن هنّ موديلات نقية مرغوبة، لكنهن لسن فرائس ضعيفة في أي حال من الأحوال. صور تُشعرنا بأن أصحابهن يلعبن اللعبة، ويقدن الرقص ضمن الأوضاع “الشنيعة” التي أحبها. من تلك الفتاة التي تحبو على أربع على فراش سرير في جزمة فارس، وهي ترتدي سرج حصان على ظهرها، إلى عارضي الأزياء الأنثويين المرتدين بدلات رسمية من تصميم إيف سان لوران، أو ذاك الذي يعانق حبيبة عارية مثل دودة في أحد شوارع منطقة الماريه الباريسية، أو، مرة أخرى، هؤلاء “العراة المحليون” – المخلوقات الرائعة في صورة تم التقاطها في نصف ضوء غرفة غسيل في نيويورك، واحدة مضغوطة على الغسالة، وثانية كما لو كانت مصلوبة على الثلاجة. “أنا منجذب جدًا إلى الذوق السيئ، الأكثر إثارة، في نظري، مما يسمى الذوق الجيد الذي هو مجرد تطبيع في المظهر”، قال في مؤتمر صحافي عام 1984.
لكن، وبالعلاقة مع صورة المرأة تحديداً، وصل الفنانون – المصوّرون الفوتوغرافيون إلى مطارح راديكاليّة مختلفة في علاقتهم بالواقع. أعمال ليس كريمس وأولاف مارتينز، حيث يستحضر الأول نساء أشبه بأكسسوارات ضمن عناصر أخرى يذكّر مجموعها بواجهة مخزن، نقول إن هذه الأعمال مسكونة بهاجس فكري في الأساس، وقد انطلقت مفاهيم المصوّرَين الإثنين من إمكان التعامل مع مادة خام، يتدخّل فيها الفنّان ويحوّلها غرضاً فنيّاً ذا إستقلالية ذاتية. لم تعد الصورة، عند هذين، ذاك الوسيط الذي يمكن بفضله استهلاك مقاطع من المرئي، وإصلاحها على النحو الذي يتوافق مع هيئتها الواقعية الملموسة، بل وجدا فيها، على العكس، عنصراً كاملاً من الواقع. هذا العنصر يجب التساؤل حول طبيعته الجوهرية، وحول إمكان علاقته بما يحيط به من أشياء وُجدت بمالصادفة، أو جرى إحضارها عمداً، وترتيبها، أو بعثرتها، على نحو قد يخالف القواعد البصرية.
ديفيد ديبنتسكي
على عكس ذلك، وبعيداً من الإتجاه المفهومي المذكور، يولي المصوّر الأوكراني ديفيد ديبنتسكي الناحية البصرية اهتماماً بالغاً. تحت عنوان Sensual Art Photo يصنع ديبنتسكي صوراً يلعب فيها العنصر الأنثوي، بورتريها أكان في بعض الأحيان أم جسداً غالباً، دوراً أساسياً في المضمون. صور تجنح، من حيث مردودها البصري، صوب الفن التشكيلي في اتجاهاته الرومانسية، وتفوح منها روائح عطور حسيّة، وحتى شهوانية، وهي تجهد من أجل إبراز المرأة في أحوالها الإيجابية نسبياً، ولو أن بعضها يحاول خلق جو نفسي ما. هل هناك بعض من مفاعيل “الكيتش” في تلك الصور؟ التساؤل جائز، لكن، لا بد من الإشارة، إلى أنها ستحوذ على إعجاب الكثيرين من دون شك، استناداً إلى قدراتها التقنية الواضحة.
بحث كثيرون من العاملين في مجال الفوتوغرافيا في جوهر الأشياء من خلال الغوص في نواحيها غير المألوفة، من دون اللجوء دائماً إلى الإختبار كي لا يصبح العمل تجريبياً بالكامل
في كل الأحوال، لا يمكن التصوير الفوتوغرافي أن يستخف بموضوع المرأة، إذ إن اختيار السبل والأهداف السهلة سوف يجرّد الفعل من مدلولاته الفنيّة الحقيقية. لذا بحث كثيرون من العاملين في مجال الفوتوغرافيا في جوهر الأشياء من خلال الغوص في نواحيها غير المألوفة، من دون اللجوء دائماً إلى الإختبار كي لا يصبح العمل تجريبياً بالكامل. إذ كان الهدف منح الذات ومنح الآخرين شكلاً من أشكال التجربة، يمر حكماً، أو قدر الإمكان، عبر بوابة الحدس. إن “الشيء” في ذاته هو ما يُراد له أن يُرى، أي “الشيء” الموجود، وليس الغرض المطلوب. وإذا كانت الفوتوغرافيا زاحت عن هذه المفاهيم، فلأن تطوّراً ما، سلبياً أو إيجابياً، طرأ على الفنون بأكملها، إضافة إلى عوامل أخرى أملتها الظروف والمتغيّرات.